الثلاثاء، ديسمبر ٢٩، ٢٠٠٩

سنويّة

الإنتظار فى المكان الخطأ:
كنا فى انتظار السيد المناضل "جودو"، مُحرر ميدان التحرير من الأمن المركزي، ومُحرر الأرض الفلسطينية من الصهاينة، تمر الدقائق ونحن نتبادل النظرات بيننا، تنتصف الشمس فى صفحة السماء، وضباط المباحث يقفون بعيداً وبسمات السخرية المقيتة ترتسم فوق وجوههم، كيف يخشى كيان الدولة الهائل بضعة بلهاء حالمين متناثرين ؟، يلتف المخبرون حولنا فى دائرة مغلقة، أخيراً صدرت الأوامر بالاعتقال بتهمة "الحماقة الرومانسية".. والسيد "جودو" خذلنا ولم يأتِ بعد.
*
فى عربة الترحيلات، دسست أصابعي فى فتحات النافذة، ونفثت دخان السيجارة إلى خارج العربة فى الهواء متأملاً حريته، حاولت إدراك شعور المحتجز السجين لكننى فشلت، فالعالم الخارجي يبدو شاسعاً بلا معنى، قاحل وجاف ومقفر، كنا هنا نتوهج بالهتاف، نتوهج بالنكات، نتوهج بالغناء، وبالأشعار والرقصات، الحماس الحىّ، وإن سكن قليلاً، لا يهمد أبداً، تارة نطلب مشروبات وهمية، زميل يطلب قهوة بالليمون، كأن الحياة ليس بها ما يكفى من المرارة اللاذعة، وتارة أخرى نغنى إحتفالاً بعيد ميلاد زميلة أخرى ونهتف قائلين:
"أول مطلب فى الليمان.. تورتة حلوة لست إيمان"
"أول مطلب للمساجين.. تورتة حلوة لكل سجين"
الأشياء تستعيد مذاقها الأصلي، البهجة وضحكاتها، السخرية ومرارتها، الحماس واشتعاله، حتى القلق مذاقه في ساعات الإحتجاز اختلف، والمخبرون بوجوههم التى تصطنع اللامبالاة يتمايزون غيظاً وكيداً عاجزين عن فهمنا.
*
غ.ز.ة:
تواشيح وأناشيد ومواويل بتتغنى، هقهقة ومقالب وضحك بيجلجل، سقف العنابر يتشقق، وأبص من ورا القضبان والشقوق ألمح شجر متجمع، شجر مكوّن فرقة تخت شرقى، قانون وعود ورقّ وناي، وبيعزف ألحانه الهادية طول الليل طول الليل، بعدها ألمح مصانع الأسمنت بتشغى غبار، يغطى كل شئ حتى الشجر اللى أوراقه بقت زى ورق مفضض بيلمع تحت القمرة، بعدها صحارى وقنا ضيقة وتلال وجبال فاضية ولا فيها صريخ ابن يومين، بعدها غزة على قبة البركان مستنية تفيض على الأرض هناك لحد هنا.

الاثنين، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٩

Dark Blue Dive

ينطلق عواء صفارات الغارة في اللامكان واللازمان العربي، على الطريق القادم من حلب، هناك الميكروباص السريع الذي يحمل ركاباً من جبال الطوروس يراوغ الظلمات والضباب بأضواءه، وفي الحارة الصغيرة المعتمة، يخرج عاشقان عربيان من حانة ضيقة، لا يبدو على مظهرهما نشوة السُكر، يتوقفان جانباً ويختلسان الحب في ثمانية وثمانين قبلة بجوار جندي بريطاني –أو ربما إسرائيلياً- ملقى على الأرض مشغياً عليه ومجرداً من سلاحه.
ينطلق عواء الصفارات المزعجة مرة أخرى، فتلتصق أجساد العاشقين ببعضهما ذعراً، تشرأب أعناقهما وتنكمش، يتعلق اللحم باللحم، يتمزق الجلد بالأظافر، تطلى صفحة السماء بالكحلي قبل أن يتكثف الدخان، مائة ألف قنبلة تدك المنازل فتضئ الدنيا وتنطفئ بمائة ألف ومضة تغشي عيونهما، يرتعش البدنان بمائة ألف رعشة مماثلة تطقطق عظامهما من الخوف، كل الأشياء المحيطة تئن من وطأة القصف فوقها، تتدرج الأدعية والابتهالات في جوف السماء تصاعدياً، تُسمع آهة طويلة عالية تموج وترتفع إلى سقف الليل ذاته، تُسمع عميقة وقوية، تُسمع كإنها أبدية...
وفي لحظة، حلّ الصمت، وانقشع الدخان مرة واحدة، وبقيت ظلمة الليل الأصلية، فانطلق الاثنان من فورهما خارج الحارة حيث وقف الميكروباص عندهما وهبط منه صبي صغير ينادي: معبر قلنديا، العجمي العجمي، رمسيس رمسيس رمسيس.

الأحد، نوفمبر ٢٢، ٢٠٠٩

ثدي

بخارُ ماءِ يتكاثفُ صعوداً، أصابعُ نحيلةٌ تمسحُ المرآهِ، ثدي نائمٌ يتجلى تدريجياً، راحةُ يدِ باردة، وآخرى دافئة، حلمة ورديةٌ تٌجَس، آهة رقيقةٌ تُشهَق، تنهيدة صغيرةُ تٌزفر، والحلمةُ تَنتَصب.

السبت، أكتوبر ٣١، ٢٠٠٩

حضن

فضلت ألف في دواير في حوش الكلية وأنا بأعرج من الضرب والوجع، وشي كان كله دم نازف وكدمات سودا، الطلبة والدكاترة ملمومين حواليَّ في دايرة أوسع بيتفرجوا عليَّ، كنت بأزعق في اللي دخلوا يجيبوا رجلين الكراسي وألواح الدكك عشان يرجعوا يكسّروا عضامي بيها، "أيوة، أيوة، أنا مجنون، مجنون، مجنون... إبعدوا عني، محدش يقرب لي، سيبوني"، فضلت أعوي زي الكلاب المسعورة في الحوش وأشوح بإيدي في كل ناحية، الشمس الحامّية خليتني أزيد في جنوني بحريقها، مكنتش شايف الناس إلا وشّ واحد بيتكرر، وش بيضحك من فرط القساوة..
اتقدمت السمرا زي الحلم من بين الصفوف ناحيتي بشويش، بتأخر رجل وتقدم رجل، كنت بأصّرخ في السما طالق سيل شتايم، مدت إيدها مترددة، إيدي ضربت خدها بالألم بالغصب، لكنّها دخلت في حضني بقوة وشدت إيدي حوالين بدنها الصغير، شميت ريحة شعرها المغسول وحسيت بدوخة، سلمت نفسي ليها، ضمّت دراعي جنبي وحضنتني، انفجر الدمع من عيوني بدل من شرار الغضب، لحد ما عيوني زغللت من العيّاط وما بقيتش شايف حاجة ولا حد غير أطياف نور بعيدة، فضلت تمسح على راسي وضهري، وتمتم في ودني، حضنتني أكتر وأكتر، جسمها الدافي طلع الحرقة من عينيّ، وبدأت تقفل واحدة واحدة، مسحت خدها في خدي، نامت راسي على راسها. شفتهم كانوا رجعوا جايين واحد ورا التاني شايلين في إيديهم المكانس ورجلين الكراسي وجايين ناحيتنا، قلت لها "حوشيهم عني"، سألت باستغراب "مين؟"، كررت والبكا مغرَقني ومغرَقها "حوشيهم عني"، ضمّيتني في صدرها أكتر من الخوف عليّ لحد ما اختفيت جواها وبقت بتحضن نفسها..

الجمعة، أكتوبر ٢٣، ٢٠٠٩

آي آي


ليت الفتى حجرٌ، ليت الفتى ما يحب،
...
ما تقفش قدامها، وإذا سلّمت عليها إيدك من الحُب تقول: آي، زي شكّة دبوس شعرها في قلبك. ما تقفش قدامها كتير، ارقص، غنّي، زغرط، ارقع بالصوت الحيّاني، لا تفضل أنت تفور وتغلي زي الوابور، وتاخد أنفاسك بسرعة وتبخّرهم في الجوّ بابتسامتها الساكتة الواسعة المعتادة، ما كل مرة الدباييس في قلبك تغرز أكتر، فبلاش تقف قدامها.
هي علامة استفهام متربعة بالغيظ على كرسي، لو مدت إيد تبقى مش فاهم!، ولو عقدتها برضه مش فاهم!، والتعب اللي شلته لوحدك، هبد عقلك القزاز ودشدشه على الأرض تراب مع كناسة الأرصفة. يا خسارة عليك يا قليل الحيلة!!، عندك فكر كتير بتجرجره زي علب الصفيح على البلاط، يا ريتك كنت قُلت وجريت، أو قُلت وطِرت ورا اللي طاروا من عصافير واجواز يمام على قطط على أرانب، نفدت أنت بروحك من جلدك طاير طير، وسبتوها في الدهشة متناهية، وسبتوا الشجر العيّاط، وسبتوا السما الأولى لحد السابعة، وخدتوا هناك كلكم عنّاب ولعبتوا استغماية ونمتوا في حضن الشمس، آديك بِلّم، الوقت مش حاسّك ولا حاسّه، تلوك الكلام ويلوكك، تقرقض أعصاب مبريّة بكل كلمة تقولها، وتفكر إنك لسه واقف قدامها ما بتبطلش قولة : آي.

*اللوحة للفنان صلاح عناني

الاثنين، أكتوبر ١٢، ٢٠٠٩

Writer's Block

وقفت السمراء أمامي ثم ضغطت زرّ التشغيل، فانطلق سير الماكينة في الدوران مصدراً صوتاً عالياً مزعجاً في أذنيّ مماثلاً لضجيج الجحيم، نظرت إليها مستعطفاً أن توقفها لكنها نظرت في عينيَّ بتحدٍ غليظ جعلني أنكمش.
رفعت ذراعها والتقطت عوداً معلقاً في الهواء فوقها، ثم ناولته إليّ، وكسرت إظفرها ووضعته في راحة يدي قائلة أمرها الصارم:
- اعزف لي.
كانت تروس الماكينة السوداء العارية الدائرة قد برّت من أعصابي ما يكفي حتى شارفت على الإنهيار، قلت لها في إرهاق محاولاً أن يكون قولي حاسماً:
- لا أستطيع !!
لم تكرر أمرها مرة أخرى، بل نقلت مستوى سرعة الماكينة إلى الأسرع، شعرت أن هناك نزفاً حاراً قد تدفق في أعلى رأسي من الصداع، أبعدت رأسي إلى الوراء مبتعداً، وتأوهت من الألم، كدت أسقط بالكرسي على ظهري، ألقت نظرة تحدي شيطانية في عيني ثم وضعت سن إظفرٍ آخر في منتصف أحد أعمدة الماكينة الحادة، فصدر صفيراً رفيعاً لعيناً نتج عن احتكاكهما، اتسعت عينيَّ رعباً وقلت لها راجياً:
- أرجوكِ، كفى !..
- اعزف.
وبدا من وجهها الألم لحظة اقتراب اصبعها من التهام العمود القاطع ما دفعني أن أتأهب بالعود في وضع الاستعداد وأمسك إظفرها الموضوع في يدي كريشة عزف، نزعت يدها من قلب الماكينة في برود، ثم مسحت طرف إصبعها الدامي في طرف ياقة ملابسها، نظرت إليه بمزيد من الإشفاق والهوان، أشرت لها أن تطفئ الماكينة حتى أستطيع دوزنة العود، فرفضت قائلة في صلفٍ:
- تستطيع العزف هكذا.
تقوست والعود في أحضاني، داعبت أوتاره محاولاً تجاهل ذلك العويل المستمر الذي يثقب رأسي كمسمار جهنمي، انحنيت أكثر تجنباً قسوة أوامرها، لكنها فجأتني بسؤالها:
- أتعلم ؟
رفعت رأسي نحوها متسائلاً:
- ماذا ؟
- .......
- ماذا ؟
- لا شئ.
لم أستطع خفض عينيَّ عن وجهها، وقلت لها:
- أنا جبان.
- ...........
- لعلّي لست جريئاً بالقدر الكافي.
- ..........
- وربما لأنني لست...
قاطعتني بعصبية ظاهرة:
- اخرس. اخرس. لا تقلها. أنت لا تفهم شيئاً.
أشاحت بعيداً عني لعدّة دقائق، ساد صوت الماكينة علينا، قبل أن تمسح تحت عينيها، وترتد إليّ قائلة بصوتٍ مخنوق:
- خذ شهيقاً عميقاً وعد إلى عزفك.
تشاغلت عنها بالانتهاء من ضبط الأوتار، وشرعت في العزف حذراً، ثم ارتقيت الثقة تدريجياً.
أغمضت عينيَّ، وابتعدت بخيالي مسافراً، سمعت صدى يتسلل، خرير ماء نهرٍ يتدفق، نهر قد يدعى النيل أو الليطاني أو دجلة أو الفرات، تناديه ألحان عودي، يمر تحت أقدامي، ثم يفيض فيحملني كزورق خشبي رُسمت فوقه الأسماء والزخارف والأغصان والأطيار، يحملني هادئاً في رحلة أبديّة بلا هدى ولا نهاية، مجرداً إلا من هذا العود، أدق عليه طربي ونشوتي، وتعبر فوقي آلاف الشموس والأقمار، وتظهر وتختفي ملايين النجوم والشهب، وأظل أعزف منسجماً سابحاً بين ضفاف اليقظة والنوم والموت والخلود.
فتحت عينيَّ، فوجدتها تقترب مني بعد أن أطفئت الماكينة، ركعت أمامي، نظرت إليها متعجباً، اختلجت أناملي فوق الأوتار، علقت خلاخيل ذهبية حول كاحلي في حنان، ثم أمسكت قدمي وهزتها مرتين فصدر منها رنين خافت، رفعت وجهها إليّ ونظرنا إلي بعضنا في رفق مبتسمين.
نهضت ثم جذبت كرسياً من الهواء، ورقاً صغيراً معلقاً، ثم جلست في مقابلتي ضامة أكتافها في انتظار، رفعت يدي بالإشارة، عدت للعزف برفقتها طوال الليلة الماضية.

الثلاثاء، أكتوبر ٠٦، ٢٠٠٩

سيدة القصر .. قارئة الفنجان

وجدت بابها موارباً، عصافير الصباح تتقافز على الدرج تلتقط الحبّ، الشمس مائلة بحنانها الربيعي تحت أقدامي، مددت يدي المرتشعة لأطرق الباب، فسمعت غناءً بعيداً يأتي من خلفه.
"فوق الشجرة أم الأحسن غنت"
شجعت وطرقت الباب بلا وجل، فانفتح من ثقل طرقاتي الخفيفة، ظهر خادمٌ يقف على مقربة منه منتظراً، قال بابتسامةٍ رفيعةٍ "أهلاً وسهلاً.. تفضل"، وأشار ناحية غرفة الضيافة، هززت رأسي شاكراً ثم تقدمت ناحية إحدى كنبات الغرفة وجلست خجلاً، فكرت فى إشعال سيجارة لكنني تراجعت عن الفكرة وتشاغلت بالزخارف المرسومة على الأرضية الرخامية البراقة رُسم عليها أطيار وأغصان متشابكة، بدت فى تتابعها وكأنها تحكي قصة.

"سامع صداها من العلايل يبرى"
صوت الأغنية الهائم فى أرجاء القصر لا يمسح السكون عن الأثاث والأشياء، بل يزيدها توحداً.
"طار نعاسي"
انتبهت من فوري على صوت أقدام تهبط سلماً، نهضت ثم تنحنحت، ألقيت نظرة مستطلعاً فوجدتها تدخل الغرفة، بهيّة الطلعة، ترتدي قميصاً فضفاضاً سمني اللون، وتعقص شعرها اللامع فى شكل كعكة هائلة يبدو معها عنقها المرمري شامخاً، تزين أذنيها بقرطين ثقيلين من اللؤلؤ، ابتسمت فبانت أسنانها البيضاء الكبيرة بين شفتين ورديتين وقالت "تفضل"، انتبهت من شرودي وجلست خافضاً رأسي في أدب، أشارت إلى خادمها فأتاها مهرولاً، طلبت القهوة، أخفض رأسه مطيعاً وخرج.
"ونشوف ضو اسنانها الي فجره"
جلست تتأملني ملياً، ضممت يديّ بين ركبتيّ، مرت الدقائق بطيئة حتى دخل الخادم حاملاً القهوة السوداء ثم وضعها فى رفق أمامنا على طاولة صغيرة وانسحب، شكرته ثم رشفت رشفة هادئة من الفنجان.
"ويحكي لها بمواجعي وبدايا"
طاب لي صمتنا الذي طال، لم أشعر معه بالحرج، بل شعرت براحة خافتة تسري فى أوصالي المكدودة، تأملت ألعاب الضوء المتسلل من النافذة الملونة المزخرفة فوق الحائط المقابل، رشفت رشفتى الأخيرة من فنجاني ثم ناولته إليها، قلبت صحنه الصغير فوق فمه، ثم قلبتهما وهزتهما معاً برفق ، وكانت قد فعلت نفس الشئ مع فنجانها، اقتربت منى ثم وضعت يدها المرصعة بالخواتم فوق يدي كي أقترب أنا الأخر منها وسألتني "ماذا الذي تريد أن تسأل عنه ؟"، احترت فى معرفة الإجابة وشردت عيناي بعيداً، لم أستطع إيجاد شيئاً بعينه أريد أن أعرفه، لم أهتم قط بالسؤال عن الآتي إلى تلك الدرجة، أردت أن أقول جذبني الفضول فأتيت.. لا، لا، أنا كذاب.. هناك ما أريد أن أسأل عنه، لكنني لم أعد أريد معرفة سوى ما ستقوله هي، جئت بمخزون قوي من السخرية والتكذيب، والآن أنا مهيئ تماماً للإستماع لكل حرف تنطقه كأنه من كتابٍ مقدسٍ، الأكاذيب من فمها ستبدو حقائق ناصعة، كدت أقول "لا شئ" لكنني همست متسائلاً "كل شئ ؟"، هزت رأسها مع ابتسامة خفيفة علامة الإيجاب، ثم تناولت فنجانها وقالت "أحب دائماً أن أبدأ بفنجاني"، أدارت الفنجان بين أصابعها وهى تدير عيناها فى داخله في تأمل شديد، اعتدلت فى اهتمام مراقباً إياها، مطت شفتيها في عدم اقتناع، ضيقت عيناها في تركيز ثم أشارت إلى داخل جدار الفنجان، "هناك طاقة نور"، وأضافت "وهذا طائر ملوّن صغير، لا أعرف له اسماً، يقف على حافة تلك الطاقة"، ثم صمتت وطال صمتها، وضعت فنجانها في رويّة معلنة إنتهائها من قراءته، رفعت رأسها إليّ وابتسمت، ثم التقطت فنجاني آخذة نفساً عميقاً من صدرها المرتفع، نظرت داخله في تعمق وغابت، رفعت خنصرها النحيل وأشارت به ناحية قاع الفنجان، "أترى هذا الباب؟"، هززت رأسي دون أن أرى شيئاً حقيقياً، كل ما رأيته تعاريج رفيعة نتجت عن جفاف البن داخل جدران الفنجان، "من يقف خلف هذا الباب الموارب؟" سألتني، "وهل هناك من يقف خلفه؟"، صمتت كثيراً قبل أن تبتسم مرة واحدة وتجيبني "هناك.. لكنه سيغادر بابك إلى بعيد"، "إلى أين؟" سبقتني لهفتي بالسؤال، اتسعت ابتسامتها أكثر وقالت "لا تقلق.. فسوف يعود يوماً فقد عرف من أي الأبواب يدخل"، ثم أعادت الفنجان مقلوباً ووضعته فوق الطاولة القريبة، ثم جاذبتني أطراف الحديث حتي نسيت الفنجان وقصة الفنجان.
ظلّت تسألني وتستمع منصتة إلى حديثي، وأنا أجيبها دون أنا أجد فرصة واحدة للتوقف، ظننت نفسي مخموراً لا يستطيع التحكم فيما يدلي به فمه، والحق أنني كنت كذلك، فبريق عينيها ولفتاتها الصغيرة المهتمة بما أقول جعلتني أشعر بنشوة الحديث معها.
ألقت نظرة طويلة في ساعتها، كففت حديثي خجلاً، فسألت "لِمَ صمت؟، أنا آسفة، لم أكن.."، قاطعتها خافضاً رأسي "لعلي مملاً"، قالت "لا. لا. لا تقل هذا أبداً أرجوك"، ثم زامت ونهضت فنهضت معها وقد تقابل جسدينّا، قالت متلهفة في صوتٍ آسفٍ "ربما قد نتابع حديثنا في وقتٍ لاحق، فأنا الآن عندي موعد في المطار، سأركب طائرة"، سألتها متعجباً "طائرة!، لماذا؟"، ابتسمت في حرج قائلة "ربما لا تعرف، لكنني أعمل مترجمة بالأمم المتحدة"، ضاعف قولها من دهشتي!، فقد انتقلت بي من عالمٍ إلى آخر في لحظة واحدة!، سألتني فجأة "لم نتعارف بعد، أنا فتحية"، أحسست بدوار يلف رأسي، "فتحيّة!! مترجمة!.. أنا حسين.. حسين الحاج"، نادت خادمها فجاءها، طلبت منه حقيبتها فذهب يحضرها، "أتعرف من كان يقف بالباب.. بابك؟"، رددت متلهفاً "من؟"، قالت مبتسمة واضعة يدها الدافئة في يدي"إنه نفس الطائر الملون الصغير الذي وقف فوق حافة طاقتي.. فرصة سعيدة"، ثم غادرتني ملتقطة حقيبتها من الخادم الذي ودعته سريعاً قبل أن تختفي من فتحة باب الغرفة التي كنت فيها دون رجعة.

السبت، سبتمبر ٢٦، ٢٠٠٩

Yellow Brick Road

تحت تحت، الرقص في الدور التاني، دُمْ دُمْ تَكْ تَكْ دُمْ دُمْ تَكْ، المدن كلها بتتطربق، صالة بلياردو وبلّي وبولنيج في الدور التالت، كله نازل فوق بعضه بنفس ترتيبه، تَكْ تَكْ دُمْ دُمْ تَكْ تَكْ دُمْ، الأشكال قدام عينيّ بتتطوح مخمورة، هفف هفف، أنت مالك بتنهج فى الـ*يك زي اللى بيجري ؟، هفف هفف، البنت اللى رقصت معايا قالت لي واختفت، الحبّ معايا ..سكتة.. زي المشي على الصراط المستقيم، دُمْ ..سكتة.. تَكْ، منسق الأسطوانات هيسمعنا أغنية أخيرة يتبعها السلام الوطني، شششششششش، نداء، نداء، صوت معدني بارد، نحنُ على بعد 25 ألف فرسخ تحت مستوى البحر..
سامع حاجة ؟
شايف حاجة ؟

Down
Down
Down
Fades Out

الثلاثاء، سبتمبر ٢٢، ٢٠٠٩

اليوم النشيد

هيصحى الصبح وهيبقى مضطر -يا حبة عينه- غضباً عنه يغنى "بلادى بلادى لكِ حبى وفؤادى"و"صوت الجماهير هو انتفاض عزم الأبطال" و"وطني حبيبي الوطن الأكبر" فى الحمام والشغل والأتوبيس وفى ودن اللى جنبه طول اليوم، لأن دماغه بتنقح عليه بيهم، وكل ما يقول لنفسه كفاية يعلّي بالصوت أكتر وأكتر، ويعلق الصور على الحيطان، وينشر الأعلام على المنشر، ويمشي بالخطوة العسكرية، ويحيي العلم، ويقوم يصقف بصدره في آخر الأغنية والخطبة اللى فكت حبس دموعه، ويلاقي كراريس الواجبات ومجلات سمير وشرايط الأغاني تحت السرير، ويرمي الأدوية من الشباك، عشان يبص في المراية ويفتكر شكله، ويبص فيها تاني ويعرف روحه، ويبص فيها تالت ويعيط من بزّه اليمين، ويبص فيها رابع ويضحك من قلبه الشمال، ويبص فيها خامس وكأنه ما بيشوفشي إلا نفسه صغيّر، وينسى إزاي صحي إمبارح وأول إمبارح وأول أول وإزاي صحي من سنين طويلة وفضل فايق ما بينامشي طول العمر ده ... إزاي ؟، وقبل ما يغطس فى النوم يرجع تانى يقول
"وإحنا مش عاوزين نشيد"*

* بيت من ديوان ميت بوتيك لفؤاد حداد

السبت، سبتمبر ١٩، ٢٠٠٩

محاولة انتحار

وقفت طيلة نصف ساعة أمام مرآة الحمام، أتأمل وجهي بعد الحلاقة، في كل مرة أحلق ذقني يبدو وجهي على حقيقته، صغيراً ومستديراً. طيلة النصف ساعة كنت أفكر وأحلم بأشياء عدة وأنا أجذب ذقني القوقازية وأعض على شفتي العليا متأملاً موضع شاربي المحلوق، رفعت وجهي وأخذت أتأمل عنقي الأسمر النظيف من الشعر وأضغط بأصابعي فوقه، وعندما خطر لي فجأة خاطر الموت، أحسست بالدم يجري في شراييني نافراً، كأنني مشرف على موتي فعلاً، أمسكت مكينة الحلاقة وأثنيت رأسها عدة مرات، لمعان شفراتها في الضوء وخز قلبي بالخوف، ضغطت رأس الميكنة فوق رقبتي، فكرت فيما يفترض فعله، ثم جذبتها سريعاً ناحية اليسار فيما أدرت رأسي في الإتجاه الآخر، وعندما رفعت رأسي مرة أخرى أمام المرآة لم يبد أن هناك شيئاً قد جرح، ثم ظهر خيطين عرضيين من الدم تدريجياً، سال منهما خيطين رفيعين من الدماء فوق رقبتي ونحري، كانت الدماء تلمع في المرآة مثل شفرات المكينة التي تسببت فيها، أحسست بالألم لكنني لم أرفع يداً لأمسح الدم النازف، وصرت أتأمل بدقة خيوط الدماء المتشققة وهي تشق طريقها وتجري هابطة نحو صدري المرتجف خوفاً، استفقت على صوت أمي يناديني من خارج الحمام وبطرقات يدها على بابه، انقطع حبل أفكاري وخيط الدم السائل، وارتد وعيي إلى العالم حولي وارتدت الدماء إلى داخل الجرحين الرفيعين، جففت وجهي من بقايا الشعر، وعنقي من قطرات الدم، ثم خرجت ملبياً إياها..

انتظار

كنت أقف في الهجير منتظراً من لا أعرفه، فوقي شموس عديدة، كلها تقدح الشرر بلا رحمة، أرى حقلين بعيدين من أشجار الزيتون وبينهما طريقاً أسفلتياً لونه أحمر، مرتفعاً يحجب إمتداداً من الصحراء وراءه، خرج من بين أشجار الحقل الأول كياناً متحركاً بخطوات قوية منتظمة كمشيّة الجند يسير في إتجاه الحقل الثاني، أحطت عينيَّ بكلتا يديَّ وحاولت تبين ما أراه، فبدا الكيان كأنه لإمرأة ترتدي جلباب أسود وتضع حجاباً طويلاً غير معقود حول رقبتها، كانت قد وصلت إلى منتصف الطريق عندما ناديت "يامّا"، لكنها لم تتوقف ولم تبطء سيرها، رغم أن المسافة بيني وبين الطريق لم تكن بعيدة، ناديت مرة أخرى بعزم ما في من قوة "يامّاااااااااااااه"، أحسست لثانية أنها قد توقفت وبحثت بعينيها عن المنادي، لكنها استمّرت في سيرها المنتظم ذي الخطوات العسكريّة الواسعة، انطلقت أجري نحو الطريق وأنا أناديها مقطوع النفس، لكنها كانت انتهت من الطريق الأسفلتي وانحدرت داخل حقل الزيتون الثاني، وقفت أتأمل غيابها وراء أشجار الزيتون، وقلت في نفسي "لعلها لم تسمعني، أو سمعتني ولم تكن تريد إنتظاري"، عاد المكان إلى سكونه المعتاد في لحظات قصار، أحسست أن هذا السكون هو حقيقة لا تقهر، قلت في نفسي "أو لعلها كانت سراباً"، وظللت واقفاً في الهجير منتظراً من لا أعرفه..

الأحد، سبتمبر ٠٦، ٢٠٠٩

ضلمة إمبارح

الأتوبيس الأخير اللى كنت مروّح به بولاق نزلني محطة أرض اللواء، كان الليل ممدود فوقي على آخر السما، قلت معلشي، نتمشاها لحد البيت والسلام، ركبت رجلي وعديت السكة الحديد والميدان، دورت في عقل بالي من أي زواية أكسرها ألاقي نفسي في شارعنا، المهم تنكسر منين ؟، مشيت ورا الناس اللي ماشية، والتكاتك اللي رايحة وجاية، واهتديت بأنوار المحلات اللي سهرانة، الدنيا صيف وسحور، والناس ونس لما بيتهادوا على الخطوة، عديتهم، خلصوا كلهم وخلص الشارع، شفت من بعيد آخري مسدود في الكوبري الدائري من عواميد النور اللي بتحاوطه من كل جهة، وقدام عينيَّ عمارات زي العلب قايمة متنتورة في قلب غيطان مفروشة بالفضا، دُرِت حَوَاليّن رُوحي مَرّات، فكرت لو إني تُهت، حسيت زي ما يكون رجلي اتكسرت عليها ألف عصاية، عقلي شاور، اِرجَع من نفس السكة، رجلي قالت، ما أقدرش أرجع كل ده تاني !
جت نجدتي من حيرتي على يميني، لما شفت ناس كتيرة بتكسر في ضهري في شارع ضيق جانبي، ما صدقت مشيت وراهم ودخلت في شارعهم، الناس بتطمّني، مطرح ما رجلي خدتني معاهم مشيت، قبل ما أحس بالأمان أو أفكر، دابوا مني واختفوا، كأن أحواش البيوت المنوّرة بلعتهم واحد ورا التاني.
خفيت رجلي بس قلت مش راجع، وكملت المشي وحدي في الشارع، والهوا اللي بيرفّ زينة الشبابيك، رَفّ قلبي معاه من الخوف والرهبة، حتى المحلات والورش المفتوحة زي العيون المبرّقة ما بانش لها أصحاب واقفين، الخلا غيّم قلبي سواد، صدري انقبض من جواه لبراه، نبحت علىّ من خرابة كلاب ما بانتش لهم بين الأكوام هيئة في ضلمتهم، جزيت على سناني ولساني، مديّت خطاويَّ، ولما بعّدت وانتهيت منهم، كان الشارع مفيش له أول من آخر، عماراته بتعلى وتعلى، تعلى، والشارع بيوطى ويوطى، يوطى، ورايا وقدامي العمى وحده، لمبات النور تزيدها ضلام، جاتني رعشة من ضلّي، جريت على قدام زي اللي بأدحرج، بان لي مفترق طرق على البعيد، جسيت في صدري النهجان، ما شفتش نور، شفت عمارة خراسانة مهجورة مالهاش نهاية في وشي، كل السكك اللى بانت مفتّحة طلعت مسدودة، التعب والتوهة لفّوا دماغي بالدوخة، مفاصلي سابت، ما كانش فاضل حتة سما أبص لها من طول العمارة اللى سدت عرضها..
...
فضلت واقف وما دريتش إلا بدموعي كلها بتسح على وشي.

الاثنين، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٩

لا شئ

أنهض فزعاً فوق السرير، لحظات وتهدئ نفسى، أضع مرفقى فوق الفخذ العارى من حر الليل، وأسند جبهتى على راحتى، وأنا أردد رداً على كابوس الليلة الماضية "مفيش حاجة... مفيش حاجة" فى الحمام، أغسل وجهى، وأصطدم بوجهى فى المرآه البلجيكية القديمة، يصدمنى تغضنه المفاجئ، أنكره كأن هذا الوجه ليس لى، حاولت الابتسام، فانشغلت عن البسمة المرسومة بذلك التجعيد الذى ظهر على جانب فمى، يسألنى الوجه فى المرآه عما بى ؟، أنثر قطرات المياه على صفحته، وأنا أجيب "مفيش".
أمى تجلس أمام المسلسل العربى المعروض على شاشة التلفزيون تقشر البطاطس، أجلس أنا الآخر أمامها وأغيب فى شعرها الرمادى والخصلات التى صارت بيضاء، تحول عينها إلىّ وترى وجهى الذى تقلص ألماً، فتسألنى "فيك إيه؟" فى نفس الوقت الذى يسأل بطل المسلسل جاداً بطلته ماذا بها ؟، فنجيب أنا والبطلة فى صوتٍ مهمومٍ غارق فى الشقفة على ذاته فى الوقت نفسه "مفيش حاجة .. مفيش أي حاجة"

الخميس، أغسطس ٢٠، ٢٠٠٩

لماذا المجنون الأخضر ؟ - بيان غير متكمل

يا أخضر بقيت كل الألوان
إلا الأخضر

بعضاً من الحياء، بعضاً من الحماسة، كأن تزمّر مع الزمارين، وتطبّل مع الطبالين، وترقص مع الراقصات البدينات، تضع زهرة حمراء خلف أذنك ساعة الحب، بدلاً من قلم ساعة الإلهام والكتابة، وسيجارة ساعة التفكير والقلق، وجهٍ طفولي غضوب تصفه الفتيات بالذكورة المبكرة، والشيوخ بإنعدامها، فلماذا يسخر منا، نحن العشاق، الآخرين ؟، من رأسٍ حليقةٍ تشع الجنون، من جبهةٍ عريضةٍ تجابه الشمس، من أنفٍ أفطسٍ يبرز الهويّة، من وجهٍ صغيرٍ يذكرك بصبيّة الموالد، من جوهرِ الإنسانِ ؟

يا أخضر بقيت كل المواويل
إلا الأخضر

رجّ العبوة الناسفة قبل استعمالها

هل تعرف؟.. هل كنت تعرفـ.. أتعرف من نحن ؟.. نحن المجهولون أبناء أولئك المجهولين الذي هتفوا لأم كلثوم في حفلاتها ب"عظمة على عظمة على عظمة يا ست"، أحفاد أولئك الذين تراهم يركبون فوق ظهور السباع فى الجداريات الشعبية !!، فلماذا نبدو كمن تطارد الكلاب مؤخراتهم ؟، ولى زمن القباب والمآذن التى تخترق السماء، وأصبحنا نصلي بالأقبية المكيّفة أسفل منازلنا، وقسمنا صلواتنا ما بين عوز وخوف من العوز.
حسناً، إذا أطلقنا المآذن كصواريخ فضائية إلى السماء، وفجرّنا القبور والسراديب خابئة الأسرار السوداء، هل سيعلم أي أحد ؟.. لَمْ يُلَمْ بالمثل يا عبد السميع/ إنّ يَرُد الصاعَ ألفاً لَمْ يُلَمْ *.. بالأمس مررت على قريتي القديمة التي تختبئ في قلب قلب المدينة، كانت سري وملاذي، جاءتها الجرافات والحفارات تردم وتقتلع وتهد، لا أعلم كيف علموا بأمرها؟، كدت أبكي من القهر وقتها، لكن لا بكاء على الأطلال تحت سماء الله الغاضبة بعد الآن، سأصوب الماسورة التي تختزن رصاصتي الوحيدة في رأس من يصيبني بالصداع بدلاً من أن أطلق الرصاصة في رأسي أنا لأخرسه.
والآن ثبت أصابع الديناميت فى جوانب الآلات، ولا تنس رج العبوة الناسفة قبل الاستعمال..

* الأبيات الأخيرة من قصيدة "الطاسة" من ديوان "ميت بوتيك" لفؤاد حداد

سموني أنا المفتون

ليت الفتى حجرٌ، ليت الفتى ما يحب، السر فيكي، مبتدأ وخبر، كلهم فرقعوا في حبك عين العفريت، ورشّوا الورد، وطيروا الأرقاب، كلهم داخوا، أصحاب الرجا...
الحلوة صابحة رايحة تدوس الورد ونضارتي، وتقفل عليها الباب، وتحلّ شعرها وتكيدني، وأقول لو يا ريت تسمح ؟، وأغني سيبوني يا ناس أروح مطرح ما أروح، أزور جنتها وشجر الحنّة، أسهر وأنام تحتها باكي، وأمسح دمعي في كمي، ياريتني ما عشقت عامنول
...
تضحك في عبّها عليَّ
المكر وسؤالها يدبحني
"بتحب ؟ مسكين .. يا حرام !!"
"ومين المحظوظة ؟"
"بوسة ؟ يعني ايه بوسة ؟"
...
وأنا أقول
" يا حبّ عيب .. اختشي "

فيلم عربي

زعقت أمي فيّ "يالا مستني إيه ؟"، اتنفضت من لخمتي، ونطيت من فوق السلم عَ الشارع، على الحنطور وطرت بالكرباج، ما في عيني إلا إني ألحقها، قاموا على كوبري بديعة في سكتي المتاريس، عساكر ببنادقها قدامي اتصفّت، طرابيش ببدلها ورايا بتهتف، حصاني الجرئ سابق، وشاط في وش الطلق، وزام فى الهوا طيران، جزيت على سناني "يا منجى نجي" ، ما دراناش بدمنا السايح إلا لما وقفنا على جمر الأسفلت.
بصيت لقيت القاهرة دخان، الشوارع صريخ، نطيت فى البويك وفتحت، شمال يمين، العجلة في إيدي مش شايفة، النار من الدكاكين، حودت يمين وشمال، المطافي وحلت السكك، "أطلبوا الإسعاف"، الموت مغطي بعفاره الأسود وشوش الناس، ريحة الحريقة فى البلد، وكل شئ كابس الطريق آهوه، شمال شمال، على الأوتوسطراد سايق لوري محمّل عائلات مترحلة،
زمّارة الغارة في وداني بتطوّل
سكوت
سكوت
سكوت
صفير بيشق السما، صرخت بعزمي عشان صوتي يغلب القنبلة، الطيارات بتطاردك، الطيارات عايزاك، قلت مانيش ناوي أموت النهاردة، زمّرت وكسرت ودست بنزين فوق الميّة، صفارة تانية بتشق وداني وتجيبها دمّ، "استرها يا رب"، الطريق حريق، طعمها فى حلقي، سدوا السكة بدبابة، الموت وقف في الزور، جت في عيني مرة كمان، عضيت بنابي وقلت يستحيل، عكست فى نفق مضلّم، وسبتهم فى أمان وجريت.
طلقت رجلي للريح، الوجع عصر كتافي، آهوه.. المطار آهوه، ولما وصلت عديت فى الناس والزحمة، لقيتها مستنية وعينها سارحة ف الجايين، جنبها الشنط منتورة، سالت دمعتها المحبوسة وهي بتضحك لما شافتني والعرق سايل على قورتي، دخت ونسيت كل اللى حصل كأنه ما كانش..

بأحبك يا توحة


جابت الرقّ ودقت لي، مطرح ما رسيت رقصت، مطرح ما مشيت رقصت في الشارع، من غير حزام، من غير بدن، رقص الهوا في النسيم، رقص القصب في الريح، جبت صاجات مُدهبة من الصايغ ودقيت لها، وتدق برجليها تفتح الشبابيك، وتشاور بإيديها تقفل الدكاكين، وتطيّر الغسيل وتنور الميادين، وتبكي قلب الفرحانين، وتضحك عين الحزنانين، ونجري من بعض نستخبى ورا عمدان البواكي، وأربع خمس دقات ترجعنا، دقيت لي ودقيت لها، ودقوا لنا السامعين على الدربكة، إلى أن دقنا تحت عواميد النور طعم القبل في الفجر..