الثلاثاء، أكتوبر ٠٦، ٢٠٠٩

سيدة القصر .. قارئة الفنجان

وجدت بابها موارباً، عصافير الصباح تتقافز على الدرج تلتقط الحبّ، الشمس مائلة بحنانها الربيعي تحت أقدامي، مددت يدي المرتشعة لأطرق الباب، فسمعت غناءً بعيداً يأتي من خلفه.
"فوق الشجرة أم الأحسن غنت"
شجعت وطرقت الباب بلا وجل، فانفتح من ثقل طرقاتي الخفيفة، ظهر خادمٌ يقف على مقربة منه منتظراً، قال بابتسامةٍ رفيعةٍ "أهلاً وسهلاً.. تفضل"، وأشار ناحية غرفة الضيافة، هززت رأسي شاكراً ثم تقدمت ناحية إحدى كنبات الغرفة وجلست خجلاً، فكرت فى إشعال سيجارة لكنني تراجعت عن الفكرة وتشاغلت بالزخارف المرسومة على الأرضية الرخامية البراقة رُسم عليها أطيار وأغصان متشابكة، بدت فى تتابعها وكأنها تحكي قصة.

"سامع صداها من العلايل يبرى"
صوت الأغنية الهائم فى أرجاء القصر لا يمسح السكون عن الأثاث والأشياء، بل يزيدها توحداً.
"طار نعاسي"
انتبهت من فوري على صوت أقدام تهبط سلماً، نهضت ثم تنحنحت، ألقيت نظرة مستطلعاً فوجدتها تدخل الغرفة، بهيّة الطلعة، ترتدي قميصاً فضفاضاً سمني اللون، وتعقص شعرها اللامع فى شكل كعكة هائلة يبدو معها عنقها المرمري شامخاً، تزين أذنيها بقرطين ثقيلين من اللؤلؤ، ابتسمت فبانت أسنانها البيضاء الكبيرة بين شفتين ورديتين وقالت "تفضل"، انتبهت من شرودي وجلست خافضاً رأسي في أدب، أشارت إلى خادمها فأتاها مهرولاً، طلبت القهوة، أخفض رأسه مطيعاً وخرج.
"ونشوف ضو اسنانها الي فجره"
جلست تتأملني ملياً، ضممت يديّ بين ركبتيّ، مرت الدقائق بطيئة حتى دخل الخادم حاملاً القهوة السوداء ثم وضعها فى رفق أمامنا على طاولة صغيرة وانسحب، شكرته ثم رشفت رشفة هادئة من الفنجان.
"ويحكي لها بمواجعي وبدايا"
طاب لي صمتنا الذي طال، لم أشعر معه بالحرج، بل شعرت براحة خافتة تسري فى أوصالي المكدودة، تأملت ألعاب الضوء المتسلل من النافذة الملونة المزخرفة فوق الحائط المقابل، رشفت رشفتى الأخيرة من فنجاني ثم ناولته إليها، قلبت صحنه الصغير فوق فمه، ثم قلبتهما وهزتهما معاً برفق ، وكانت قد فعلت نفس الشئ مع فنجانها، اقتربت منى ثم وضعت يدها المرصعة بالخواتم فوق يدي كي أقترب أنا الأخر منها وسألتني "ماذا الذي تريد أن تسأل عنه ؟"، احترت فى معرفة الإجابة وشردت عيناي بعيداً، لم أستطع إيجاد شيئاً بعينه أريد أن أعرفه، لم أهتم قط بالسؤال عن الآتي إلى تلك الدرجة، أردت أن أقول جذبني الفضول فأتيت.. لا، لا، أنا كذاب.. هناك ما أريد أن أسأل عنه، لكنني لم أعد أريد معرفة سوى ما ستقوله هي، جئت بمخزون قوي من السخرية والتكذيب، والآن أنا مهيئ تماماً للإستماع لكل حرف تنطقه كأنه من كتابٍ مقدسٍ، الأكاذيب من فمها ستبدو حقائق ناصعة، كدت أقول "لا شئ" لكنني همست متسائلاً "كل شئ ؟"، هزت رأسها مع ابتسامة خفيفة علامة الإيجاب، ثم تناولت فنجانها وقالت "أحب دائماً أن أبدأ بفنجاني"، أدارت الفنجان بين أصابعها وهى تدير عيناها فى داخله في تأمل شديد، اعتدلت فى اهتمام مراقباً إياها، مطت شفتيها في عدم اقتناع، ضيقت عيناها في تركيز ثم أشارت إلى داخل جدار الفنجان، "هناك طاقة نور"، وأضافت "وهذا طائر ملوّن صغير، لا أعرف له اسماً، يقف على حافة تلك الطاقة"، ثم صمتت وطال صمتها، وضعت فنجانها في رويّة معلنة إنتهائها من قراءته، رفعت رأسها إليّ وابتسمت، ثم التقطت فنجاني آخذة نفساً عميقاً من صدرها المرتفع، نظرت داخله في تعمق وغابت، رفعت خنصرها النحيل وأشارت به ناحية قاع الفنجان، "أترى هذا الباب؟"، هززت رأسي دون أن أرى شيئاً حقيقياً، كل ما رأيته تعاريج رفيعة نتجت عن جفاف البن داخل جدران الفنجان، "من يقف خلف هذا الباب الموارب؟" سألتني، "وهل هناك من يقف خلفه؟"، صمتت كثيراً قبل أن تبتسم مرة واحدة وتجيبني "هناك.. لكنه سيغادر بابك إلى بعيد"، "إلى أين؟" سبقتني لهفتي بالسؤال، اتسعت ابتسامتها أكثر وقالت "لا تقلق.. فسوف يعود يوماً فقد عرف من أي الأبواب يدخل"، ثم أعادت الفنجان مقلوباً ووضعته فوق الطاولة القريبة، ثم جاذبتني أطراف الحديث حتي نسيت الفنجان وقصة الفنجان.
ظلّت تسألني وتستمع منصتة إلى حديثي، وأنا أجيبها دون أنا أجد فرصة واحدة للتوقف، ظننت نفسي مخموراً لا يستطيع التحكم فيما يدلي به فمه، والحق أنني كنت كذلك، فبريق عينيها ولفتاتها الصغيرة المهتمة بما أقول جعلتني أشعر بنشوة الحديث معها.
ألقت نظرة طويلة في ساعتها، كففت حديثي خجلاً، فسألت "لِمَ صمت؟، أنا آسفة، لم أكن.."، قاطعتها خافضاً رأسي "لعلي مملاً"، قالت "لا. لا. لا تقل هذا أبداً أرجوك"، ثم زامت ونهضت فنهضت معها وقد تقابل جسدينّا، قالت متلهفة في صوتٍ آسفٍ "ربما قد نتابع حديثنا في وقتٍ لاحق، فأنا الآن عندي موعد في المطار، سأركب طائرة"، سألتها متعجباً "طائرة!، لماذا؟"، ابتسمت في حرج قائلة "ربما لا تعرف، لكنني أعمل مترجمة بالأمم المتحدة"، ضاعف قولها من دهشتي!، فقد انتقلت بي من عالمٍ إلى آخر في لحظة واحدة!، سألتني فجأة "لم نتعارف بعد، أنا فتحية"، أحسست بدوار يلف رأسي، "فتحيّة!! مترجمة!.. أنا حسين.. حسين الحاج"، نادت خادمها فجاءها، طلبت منه حقيبتها فذهب يحضرها، "أتعرف من كان يقف بالباب.. بابك؟"، رددت متلهفاً "من؟"، قالت مبتسمة واضعة يدها الدافئة في يدي"إنه نفس الطائر الملون الصغير الذي وقف فوق حافة طاقتي.. فرصة سعيدة"، ثم غادرتني ملتقطة حقيبتها من الخادم الذي ودعته سريعاً قبل أن تختفي من فتحة باب الغرفة التي كنت فيها دون رجعة.

ليست هناك تعليقات: