الخميس، مارس ٢٥، ٢٠١٠

دكّة في محطة

الحياة لما تقعد في أوضة، كل الأوض بحيطان، كل الحيطان بتخنق، بتعمي، بتخرس،
البيت رغم الشتا كله حبال مشانق متعلقة، بخار ميّة يطفي العيون ويعصر الرقاب،
سابت الكنب الحزين الناعم،
وخرجت بره بيتها طيف من نور، وتلاقي مسلكها لحد آخر الشارع.
..
هسْ هسْ .. اسمع
الجو هيرقص، ويطبّل، ويصفّر، شكشكة الخوف وعضة البرد في شارع وحلة، والليل كحلة، بتظن لأول وهلة إنه ده بيتها، كان حلمها الصغير إنها تنام على أرض الشارع رافعة راسها، وشها في وش الليل، ونجومه في عيونها بتبرّق، بتغمز، بتغمّض، واللُمض ألف نجمة منوّرين في الضباب الحيّ، تفتح إيديها في وشهم وتفقلها وكأنها بتملك كل شئ فيهم، وتشوط الحصى برجليها، فيجري بعيد، ويفضل يجري من غير نهاية.
عند آخر الشارع عدوا السهرانين متكلفتين في كوفياتهم وبلاطيهم، بيمدوا ويختفوا في الضلمة، إلا الكنّاسين بيتمرجوا بمقشاتهم خطوة قدام، وخطوة ورا في حركة رقص.
إسم محطة المترو بارز بحروف كبيرة، ومقلة نص الليل فاتحة أنوارها تكشف ساحة الشارع، والمحمصة تدور بنارها تسّوي السوداني والحمص، جت ريحة سخنة في خياشيمها فتحت نفسها، اشترت لروحها قرطاسين، مشيت بيهم ودخلت المحطة.
قعدت على الدكة الأخيرة وفضلت مستنيّة أول قطر.

الأربعاء، مارس ٢٤، ٢٠١٠

.. الجولة الثانية

... كنت أراقبها جيداً من أعلى المدرج في منتصف المحاضرة، لم تكن تحادث أحداً، وكان يبدو عليها الشعور بالملل، في لحظة ما رفعت رأسها متطلعة كأنها تشم أو تسمع شيئاً بعيداً، ظلت تدير رأسها يمنةً ويساراً، ثم قامت من مجلسها وصعدت فوق المقعد - نظراً لقصر قامتها بين زملائنا- بين الطلبة والأستاذ الجامعي، ومدت ذراعها جانبها وأخدت تهز يديها وقالت:
- هش هش هش هش هش هششششششششششش
ظلت تفعل ذلك حتى سكت الأستاذ وسكتت الثرثرة المنتشرة في المدرج تدريجياً، تطلع الجميع إليها مندهشين من فعلها الغريب والوقح، كانت هناك ثلاث فتيات يثرثرن معاً جانباً، فهتفت فيهن:
- بس !
فسكتن.
فتح الأستاذ فمه معترضاً:
- إيه ؟ أأ...
- الله !
ثم استدارت إليَّ وأشارت بسبابتها وإبهامها وزأرت قائلة:
- أنتَ، عايز تقول حاجة ؟
أخذتني المفاجأة، وأشرت إلي نفسي متعجباً، هززت رأسي نافياً وأجبت مستنكراً:
- مين؟ أنا؟.. لأه!.. أبداً!.. إزاي؟ أقول إيه يعني؟
ضيقت عينيها ريبةً ثم ابتسمت ابتسامة ذات مغزى فبادلتها الابتسام الماكر.

أعمل واحد عبيط

ذات نهار، ذهبت إلى محاضرتي مبكراً على غير العادة، لم أجد أحداً قد وصل بعد، حجزت لنفسي مكاناً في أول مقعد واضعاً حقيبة ظهري في المكان الذي اختره، ثم تركت المدرج الفارغ وخرجت للتسكع قليلاً حتى ميعاد المحاضرة.
عندما عدت إلى المدرج وجدت المدرج ممتلئاً بالطلاب، حمدت الله على نصاحتي لأنني حجزت لنفسي مكاناً في المقدمة، لكنني فوجئت بزميلتي زينب تجلس في نفس المكان الذي اختره لنفسي في المقعد، وقد امتلئ المقعد إلى آخره ولم يبق موضعاً إضافياً، ووجدت حقيبتي فوجدتها ملقاة على الأرض مهملة أمام المقعد الأول.
ينبغي لي أن أقول أن مثل هذه الحركات السخيفة معتادة بين الطلبة في الجامعة. أما زينب هذه فهي فتاة قمحية قصيرة، بالنسبة إليَّ بالطبع، شعرها بني اللون ناعم، ذات وجه مستدير وأنف صغير وشفتان رفيعتان، وتحمل في عينيها الكثير من الصلف والكبر واللامبالاة.
كنّا نتبادل المشاعر السلبية بيننا، وقد تعودت على أفعالها الاستفزازية أثناء اصطدامنا اليومي ببعضنا، حملت حقيبة ظهري من فوق الأرض صامتاً وأنا أوجه لها نظرات الحنق، سألتني "إيه؟، اتضايقت؟" بلهجة من يريد شجاراً، في نصف ثانية قرأت فوق شفتيها إجابة "اتفلق" إذا ما قلت لها "أيوه، اتضايقت"، عبرتها بينما كنت أجيب بلامبالاة صادقة "لا، عادي".. وصعدت المدرج راجعاً إلى آخر مقعد فيه.

الثلاثاء، مارس ٢٣، ٢٠١٠

ملك الترسو

دخل البطل في الفيلم المعروض في السينما الترسو يطيح يمين وشمال، فوقه وتحته، اتلموا عليه من كل حتة، مسكوه وقيدوه في الكرسي بالحبال الخيش، حاول يفك نفسه مرّة، واتنين، وتلاتة، فضل كتير بيحاول، الجمهور القاعد قام في القاعة الضلمة، وصفّر، وزعق، وابتدى يخرج..
البطل المتكتف طلب نجدة اللي فاضل من الجمهور، اتحرك الجدعان منهم ونطوا جوّه المشهد، ضربوا الأشرار، وفكوا البطل من على الكرسي وخدوا بإيديه، اتلموا حواليه وسلموا عليه واحد واحد، كلهم في الصالة نزلوا بيضحكوا ويهزروا مع بعض، وخرجوا من باب السينما.
وقف البطل قدام السينما متاخد من منظر الشارع الزحمة، الناس والعربيات والعيال السريحة، أنوار المحلات الفاتحة في عينيه وزعق الزحام الطارش في ودانه، خد خطوة على قدام، جاله موظف قطع التذاكر من الشباك وقاله، "أنت إيه اللي خرّجك من جوّه !"، بقى متسمر مذهول في مكانه والناس واقفة وراه، عدى أتوبيس الهيئة في وشه وزمّر، رجع خطوة لورا، خبطه صبي سريّح بملاية مليانة هدوم على ضهره بيجري بيها من البلدية، شاف عساكر بتنط من على ضهر عربية نقل بتجري وراهم، خد له خطوتين كسكسه، بص له موظف قطع التذاكر من ورا القزاز وضرب كف بكف متعجب، "أنا مش عارف إيه اللي طلعه من الفيلم ؟"، ساب البطل جمهوره اللي كان وقف معاه ودخل، عدى بين كراسي الصالة الفاضية، وطلع المشهد وقعد على الكرسي، حاول أكتر من مرّة يربط الحبل على جسمه تاني ومعرفش !!

السبت، مارس ٠٦، ٢٠١٠

إبن الإنسان

تروي أمي هذه القصة:
ذات مساء، صعدت أمي الميني باص المتجه من محطة بولاق الدكرور إلى محطة ميدان الفلكي – باب اللوق، كانت تحملني بين ذراعيها، وقتها لم يتجاوز سني عامٌ كاملٌ، وكان الميني باص ممتلئاً، فظلت واقفة حاملة إياي طوال الطريق، حتى عرض عليها رجل بلدي يرتدي جلباباً وعمامة جالس بجانبها في الردهة أن يحملني عنها، ترددت قليلاً ثم وافقت، ظلّ الرجل يداعبني إلي أن ابتسمت في وجهه، سعد بذلك كثيراً وأخرج من طيات ملابسه ربع جنيه ثم دسّه في ملابسي..

...

كلما تذكرت هذه القصة تخيلت نفسي رضيعاً محمولاً في شارع السادس وعشرين من يوليو ببولاق ليلاً بين ذراعي أحد الناس بينما تلتف جماهير النساء والرجال والأطفال والشيوخ حولي، ويمتد أمامي وخلفي طابوراً عريضاً منهم بانتظار مشاهدة طلعتي البهيّة !

خالد

(1)
يدخل شارع القهوة متمهلاً يتبعه كلب أسود أجرب، يسحب كرسياً ويجلس وحيداً ويطلب الشاى ويتجاهل المعارف الجالسين ببرود كما يتجاهلونه، والكلب يقعى تحت قدميه وينام، يمر عليه فلان ويجلس مثرثراً دون رد، وعلان يمر ويلقى السلام ماداً خطواته من أمامه رهبةً، وهو على كل من هذا وذاك، يسمع ويهز رأسه ويتأمل وجه السماء، يشرب شايّه وينهض صامتاً هو والكلب دون ربع كلمة.

(2)
وفى ليلة لا تختلف عن باقي الليالي، كان جالساً وسط جماعته على المقهى نائماً وشخيره الرتيب يزيد الليلة ضجراً، لكن الجالسين كلهم كانوا يتكلمون ويثرثرون من غير حرج !!، فجأة !، أفاق من نومه بلا سبب، رفع رأسه وهزّه يميناً ويساراً ثم مضمض فمه بالماء وبصقه أسفله، ثم انتظر إلى أن سادهم الصمت، وبمجرد أن انتهى منها، خفض رأسه على صدره صامتاً ولم تمر ثلاث دقائق وراح شخيره يملأ الكون.

(3)
المرئيات مهتزة كعادتها لحظة الإستيقاظ، أبعد الغطاء الرمادي عن جسده بحركة واهنة من قدمه، ثم نهض معتدلاً مستنداً على ذراعه فى إصرار بطئ، تحسس ملابسه التي لم يغيّرها منذ أيام بحثاً عن موبايله، أراد إرسال رسالة "كلمني.. شكراً" المجانية لصديقه الطبيب الذي يطارد أبيات الشعر فى جنبات وأركان عنابر المرضى بالقصر العيني، دسّ أصابعه فى جيب الجينز الضيّق ولم يجده، وتكاسل عن البحث عنه فى أي مكان آخر حوله، لكنه أخرج عدّة أوراق نقديّة ضئيلة لا تكفى إلا لمواصلات اليوم الموعود وثمن وجبة إفطار واحدة تمنحه القدرة على التحرك المتزّن، حاول أن يتذكر أيّة تفاصيل غير التي حفظها عن ذلك اليوم لكنه لم يستطع، كل ما يعرفه أنه بعد ثلاثة أيام سوف تقبض يده أوراق نقديّة أكبر من تلك التي فى جيبه، فشل في تحديد الوقت بالنظر إلى الضوء المتسرّب من النافذة، لم يعرف إن كان الضوء ربانياً أم كهربائياً، خمّن أنه العصرّ الآن، الأصوات الصاعدة من حركة الشارع أسفل البيت بددت شعوره بالوحدة والخوف، حلّ حزامه من حول خصره ثم رفع بنطاله المتسخ إلى أعلى وأحكم إغلاق الحزام هذه المرة ضاغطاً بشدة على بطنه الخاوية منذ صباح الأمس، لا يفكر إلا بشيطان الجوع الذي يزحف متسللاً على جسده النحيف الهزيل، وهو يزحف هارباً منه بنوم إجباري ملئ بالأحلام عن الركض مع نخل يجري فوق صفحة جدول نيلي صغير، وكان كلّما شعر بفراغ معدته قبل النوم حلم بالركض بجانب الجداول النيلية، ذكره الماء بعطشه الذي يجزّ عنقه بسكين ناري، وفكر أنه لو استطاع القيام ليشرب فلسوف يبحث عن موبايله المفقود، خرج رنين الموبايل من مكان ما خفي قريب، فصار يلقي بالأشياء في هوس بعيداً بحثاً عنه، ضغط زرّ التحدث دون أن يرى اسم المتكلم، وفي نهاية المحادثة ألقى بالموبايل بعيداً في يأس من احتمالات تغيّر حظه اليوم، حتى إنه نسى إرسال الرسالة المجانية إلى صديقه الطبيب كي يخرجه من الغرفة الليلة، تقلّب على جنبه عائداً إلى النوم، وهو يشد الغطاء الميري الثقيل إلى جسده، أصدرت أمعائه أثناء تحركه أصوات مكتومة، ابتسم رغماً عنه، فقد اعتقد أن عصافير بطنه قد ماتت جوعاً منذ فجر اليوم، لكن جوقة العصافير تلك أثبتت أنها لا زالت حيةً تصرخ من وقت لآخر مثله.

(4)
كنا نسافر سوياً
من ليل قبلي إلى ليل بحري
عابرين زحام القاهرة
وكان يتمنى في قرارة عقله الإسفنجي
لو طار الأتوبيس..
وارتطمت ألواحه النحاسية
بجدران الخرس الخرسانية
فيمزق بشق أبيض نهاري
لوحة السماء المظلمّة

(5)
ضباب رقيق يغشي فضاء الشارع، وبناياته تتوارى تدريجياً وتتحول إلى أجسام هائلة كائنة بلا أيّة تفاصيل، وأسفلت الشارع الأسود يبدو فى لمعانه كالمرآه بعد يوم مطير، تتشكل برك موحلة صغيرة على سطحه المتعرج، ثرثرة فارغة وجدل بلا معنى وضحكات ميتة تخرس بقوة البرودة الشتوية، وتبقى رائحة السِكر في الأنفاس المتجمدة، صقيع زاحف مقابل دفء منحسر، فقد الرفاق مقدرتهم على تحديد الإتجاهات بمجرد أن خرجوا من المقهى، فظلوا واقفين في مكانهم حائرين، تضاعفت طبقات الضباب حتى ملأت المكان، أحسّ بوٍحدته فجأة، انفصل عنه رفاقه وضاعوا دون وداع، سار بضعة خطوات مترددة، ارتقت مشاعر الخوف إلى عقله، خطر له أن يجري حتي يخرج إلى شارع أوسع أو ميدان أرحب، لكنه توقف ولزم مكانه، فقد تكاثف الضباب فى الهواء حتى انعدمت الرؤية.

(..خاتمة..)
ويقوله: يا ليل اسكت شوية عايز أكتب.. والليل مابيسكتش
يقوله: يا ليل اخرس.. والليل ما بيخرسش
وقالك إنه طلع مطوته وفتحها فى حركة استعراضية وشق بيها بطن الليل
فضل باصص له في السما شوية.. وبعدها كمّل كتابة على الورق..