الجمعة، يناير ٢١، ٢٠١١

الأغاني

عمرك سفرك بيتمدد قدامك في سكه صحراويه طويله من الملل واليأس وأنتَ تملاه بالأغاني! 
إيه الأغاني؟ 
ما هياش بساط الريح تركبه وتطير به أو شلالات فاكرها جايه من ضهرك وراح ترفعك تحتها لحد آخر السكه وأول النبع! 
إيه الأغاني؟ 
الأغاني للمسافرين يمكن تكون سراب اللي نسيوا إن العطش دايماً وراهم والعطش هوَّ اللي قدامهم، ويمكن تكون نجوم بتنوّر وتطفي في الضلمة من غير سبب! 
بس الحقيقة إن كل الأغاني ورود دبلانه في اللحظه اللي فكرت فيها إنك توقف بس عشان تشم عبيرها! دي الأغاني مطرح ما تمشي تلاقيها مرميّة على الجنبين!

الخميس، يناير ٢٠، ٢٠١١

يومية شتوية

كتب في آخر رسالته:
"أنا بردان . بردان قوي . ربنا يبعت الغطيان"
وبعتها. واستسلم لموته اللي انعاد عليه كل ليلة من الشتا، تنسحب منه الروح في دنيا فيها الأشباح تقوم الليل لتعذيبها، ويقوم هو من النوم مضعضع هزيل شاحب كأنه كان مدفون تحت رمل الصحارى.

صرخ أول ما صحي من النوم:
"يا ريت محدش يكلمني النهاردة"
وسكت. لأنه فزعان طول الوقت من عيون الناس وأحضانهم وأياديهم، فيفضل دايما هربان وبيجري بعيد عنهم. مع إنه كان في نفس الوقت مستني حد يتكعبل في قلبه ويقول له بابتسامة سمحة.. "صباح الفلّ".

وشوش في آخر اليوم:
"آه وآه يا كَسرة قلبي"
ووقعت دمعة من عينه. شالت فيها كل الحنان والنقمة عَ العالم، سخنة بلون الحرايق على وشه الرمادي اللي لوّنه الوحدة. ما مسحهاش وسابها تسيل وتشق لها وادي في خدوده.

سأل في أول المكالمة:
"إزاي يطيق الإنسان سواد نفسه؟"
وما استناش رد. قفلّ تليفونه، وحط لوح القزاز اللي بيحطه كل يوم بينه وبين الناس، وقعد يتفرج عليهم وهمَّ بيعدوا قدامه وكلهم مشغولين وعاملين مشغولين. ولما نادى عليهم، صوته ضرب القزاز ورجع له خايب ومتقطع.

دعا في آخر مناجاته:
"يا رب، خدني في جملة المتونسين برضاك أو خدني بس!"
وطلق تنهيدة. غمض عينيه بعدها، ونشر ضهره على السرير لكرابيج تنزل عليها طول الليل.

الأحد، يناير ١٦، ٢٠١١

الحَكّة

كلما سمع أقداماً تصعد أو تهبط الدرج، قفز من السرير، حتى يبدو عليه أنه كان مستعداً للمغادرة. لم يعد إلى السرير هذه المرة، فقد كرهه بعد أن بقى فيه ساعات الليل والنهار كلها لا يفعل شيئاً إلا أن يحملق في السقف، ظل واقفاً عند النافذة يتأمل في بلادة الأضواء المنبعثة من الأعمدة القريبة وأصحاب المتاجر الجالسين عند أبواب متاجرهم والسيارات العابرة والمارة، لم تكن في يده ساعة يتعرف بها على الوقت، لكن انطلاق أذان المغرب أثار توتره، حكّ رأسه بقوة مفكراً، أزعجه أرق الليلة الماضية، قلّب فكرة النوم في خاطره مرة أخرى، لكنّه إن لم يغادر الآن فسوف يقع شجارٌ عنيفٌ بينه وبين شريكه في الشقة.
ترك النافذة ودخل دورة المياه حيث التقط قميصه الكالح، امتعض لاتساخ بدنه من كثرة النوم والإستيقاظ حتى أصابته الحكّة في أماكن عدّة، تثاءب وفكر في نوبة استحمام سريعةٍ، وبينما كان ينزع قميصه مرة أخرى، سمع طرقات سريعة عالية، أفزعته، جحظت عيناه، وأمسك أنفاسه، شلّت أطرافه، وتأهب متحفزاً، سمع أقداماً بطيئة تصعد الدرج وأخرى سريعة تهبطه، ارتدى قميصه على عجل، ثم تأكد من إغلاق الباب، مرت دقيقة بطيئة صامتة لا يُسمع فيها إلا ضربات قلبه القوية المتسارعة، ثم تمالك نفسه أخيراً وخرج مديراً عينيه الجاحظتين في أرجاء الشقة، لم يجد أحداً غير الضوضاء الصاعدة من الشارع.
أراد أن يشرب كوب شاي واحد يهدئه قبل المغادرة، وضع البراد تحت حنفيّة الماء وفتحها، وجد أن المياه مقطوعة عن الشقة كلها، وتذّكر أن شريكه أغلق المحبس بالدور الأرضي قبل ذهابه إلى العمل، حتى يرغمه على الرحيل بعد أن فصل من عمله وانقطع عن دفع نصيبه في الإيجار لشهورٍ عديدة، أعاد التفكير في احتمالات صعوده في كل لحظةٍ تمر، سرت في جسده رعشة لمرور ذلك الخاطر في عقله، ربما يستطيع التوسل إليه لأن يبقى يوماً آخراً، جاب الردهة القصيرة المؤدية إلى الغرفة فارجاً ساقيه وهو يحك النيران المشتعلة ما بين فخذيه متردداً بين البقاء والمغادرة، عاد إلى السرير حيث سحب حذاءه، تقدم تجاه الباب في خفة وفتحه، هبط الدرج حذراً، ثم قفز خارج المنزل إلى الشارع العمومي مسرعاً حتى يتجنب مصادفته في الطريق.
فى شارع الرئيسي أحس الليل حاراً ولزجاً، دس سيجارة بين شفتيه، وظل يمشى بها سليمة، أوقف أحد العابرين وأشعل سيجارته، سحب أنفاساً متلاحقة، تنهد بارتياح، طوّح ساقيه في جهة نهاية الشارع إلى النيل، سأل نفسه هل يستطيع العودة إلى الشقة لالتقاط ما تبقى من أشياءه؟، لكنه لم يجد إجابة واضحة داخله. عند الكورنيش، عشاق وأزواج متراصين مثل الأشجار التي يجلسون حولها، وكوبري ممتد حتى الضفة الأخرى من النيل يحمل فوقه مئات السيارات، جلس على أحد المقاعد الشاغرة، ثم خلع حذاءه ووضعه بجانب المسند كيلا يسرقه أحد، ومدد جسده على المقعد وأسند قمة رأسه إلى المسند ورقبته فوق الحذاء واضعاً ذراعه فوق عينيه حاجزاً ضوء الشارع البرتقالى عنهما.
مرت الدقائق تليها الساعات وهو يقف فوق الحاجز الذي يفصل بين اليقظة والنوم، يغفو ويفيق، تضايقه همسات المحبين وخلافاتهم، شرطى يتحدث فى جهازه اللاسلكى، ولا يكف عن إصدار التوجيهات وإرسال الضحكات السمجة، أطفال يلاحقون بعضهم البعض بثيابهم المتسخة حول مقعده ويتقاذفون فيما بينهم مخلفات الشارع، زقزقة العصافير على الأغصان، الحرارة والرطوبة التى تجعل الجو كالصمغ، لم يصدق أنه قد نام حقاً إلا عندما استفاق تماماً وأدرك أن الوقت صار فى آخر ساعات الليل.
استقام فوق المقعد، تثاءب طارداً النعاس، فك صدر قميصه، مرر يده فوق عنقه وصدره اللذان يغمرهما العرق، ظل يحكّ جسده بأظافره الطويلة ثم قام من مكانه، تساءل لماذا شعر بالقلق وأحسّ كأن شريكه يراقبه أثناء نومه؟، نزل الدرج الصغير حيث النيل والقوارب المعقودة إلى الشاطئ، قفز إلى واحد منهم، كان يعرف أحد أبناء أصحاب هذه القوارب، وجد صاحب القارب العجوز يجلس مقوس الظهر على حافة قاربه، التفت العجوز وراءه ليرى القادم، فألقى السلام عليه، لكنه لم يرد عليه سلامه، لاحظ أن العم العجوز يمسك بين يديه كوباً من الشاى، التفت جواره فوجد البراد على نار الموقد الصغير يغلى وعدّة الشاى بجانب الموقد، سأله عن ابنه، فأشار إليه برأسه حيث القارب الذى يضج منه أغنية شعبية وتتراقص أضواءه باهتزاز القارب يمنةً ويساراً من رقص ركابها جميعهم عليه.
حضّر شاياً لنفسه، أمسك بالكوب من قاعدته، وسحب سيجارة من جيب قميصه، أشعلها من نار الموقد، ثم وقف على حافة القارب المهتز، شرد قليلاً وقلب فكرة فى نفسه، انحنى ووضع الكوب الذى لم ينتهى منه، وسحب نفساً أخيراً من سيجارته ثم أطفأها في قاع الكوب، نزع قميصه وبقى ببنطاله الجينز، وانحنى مرة أخرى على الماء ومسح ذراعيه ورقبته وصدره العارى بالماء البارد، ثم استعد في وقفة مستقيمة وقفز فيه، غاص للحظات ثم ظهر على سطح الماء، اقترب من القارب، وفرك كتفيه ونحره عدة مرات، شعر براحةٍ وبخدرٍ لذيذٍ يتسلل إلى أصابع أقدامه، مدّ ذراعه وانطلق يعوم، ويعوم مع تيار النهر المظلم، والعجوز يراقبه بعينين ناعستين.