الأحد، ديسمبر ٢٥، ٢٠١١

لما تقابلني

وإن رحت مره تجيب لفّة عشا ونحيب*. سلّم على قلبي. وأنت معدّي على الترعه وطالع القمّه، سلّم عليّ. بروح رياضيه حَ أمد لك إيدي، حتى وأنا قلبي بيغلي كدا زي البرّاد، حتى وأنا روحي بترقص من الفرحه. بس أنا لو عليَّ كنت أبوسك من خدك وأعزمك على الشاي، دا أنا كنت قاعد لوحدي حزين وشايل على ضهري همّ سنين، وبأسأل نفسي من إمتى الإيدين مشتاقين للسلام؟ سلّم عليّ عشان عيوني المخنوقة بالدموع تنفك وأقول اتعدلت، لاجل ما نتصافى في الأحلام وأشوف ضحكتك معايَّ أحلى من الهوا في يوم الشمس، وأغني لما تسيبني "سلّم عليّ سلّم عليّ لما قابلني سلّم عليّ عجبي يا ولدي سلّم عليّ".
* بيت من قصيدة لبهاء جاهين 

الاثنين، ديسمبر ٠٥، ٢٠١١

ونسان

...

"  فيه لحظات جميلة في أيام الإكئتاب، مثلاً إنك تصحى من النوم الصبح، وتقرر إنك ما تنزلش من بيتك حتى لو القيامة قامت، ولا حتى تكلم حد أو ترد على التليفون، وتقول إن النهار دا يوم خالي من البشر. بس أول ما بتحس بالجوع بتقرر إنك تنزل تاكل مكرونة في مطعم الكشري اللي ورا بيتكم بكام شارع، مع إنك معاك نمرة تليفون المحل وممكن تكلمهم يجيبوا لك اللي أنتَ عايزه من غير ما تحتاج تنزل.
لما بتقعد مع الناس هناك، وتتأمل في وشوشهم، تتكلم معاهم عن مهزلة الإنتخابات المعروضة في تلفزيون المطعم، بتعرف قد إيه هما واحشينك، وقد إيه الكلام نفسه واحشك، بعد شوية بتسكت وتحس بالونس ماليك جواك، وتفكر إني دي أجمل لحظات اليوم كله، وبتبقى آسيان إنك ما تقدرش تمسك فيها لأنها حَ تروح لحالها.
ترجع البيت، وتطفي التلفزيون اللي نسيته مفتوح على قناة الأفلام، تدخل السرير، وتفتكر اللحظة دي تاني، وتروح في النوم بشويش.  "
...

الجمعة، ديسمبر ٠٢، ٢٠١١

حسرة

كل ليلة قبل النوم بأنادي إسمك زي العطشان ما ينادي على الميّه، لما جيتك في أحلامي طبطبتي على صدري، بكيت لحد ما عيوني ضاعت مني، شبابيك قلبي اتفتحت بدقة إيديكي، أسراري خرجت تطير، عمري انفتح على المجهول، وعذاب الروح نبّت على جسمي وعرّش، دموعي وقفت في الهوا حواليَّ وما وقعتش على الأرض، لكن سبتيني واقف حيران، من غير طريق، من غير بيت أروح له، كسيح القلب وأعمى، بأنزف حزن وحسرة، وبأشحت النظر من عيون بتحنّ على حالي.

من غيرك، أنا مضطر أعيش، ولازم أموت ولو بعد حين.

الجمعة، أكتوبر ٢٨، ٢٠١١

أرق ليلي

وسط الندى وصلاة الفجر، آخر ساعات الليل، لوحدي كنت على الشط مستنيكي من غير مواعيد، والسهر والنوم قاعدين يتودودوا في عيوني.


ودلوقتي راجع زي كل طلعة نهار قلبي متلصم وماسك دموعه، بس بكره الصبح حَ تيجي بيتنا وصوتك يصحيني من النوم بابتسامه حنيّنه:
- يا حسين، يا حسين، قوم يا عيني قوم.. صباح الخير.

الجمعة، أكتوبر ١٤، ٢٠١١

غيّرت الإستاتوس، والإستاتوس غيّرني*

الحزن أخطبوط سكران.
...
جبر الخواطر على الله، طب وكسر القلوب؟
...
ماشي على حدّ سيفي، بالراحة وبالهداوة ، خفيف على مهلي، على أقل من مهلي. بأحاول أرّكز وما التفتش.. أنا ماشي على حدّ سلاح قادر ويشقني نصّين.
...
ملاك النوم كان بيذيع برنامج أنا والكوابيس وهواك في أحلامي: "معاكم من وقت ما تناموا لحد ما تتفزعوا!"
...
خُد نفسك قلمين في المراية، وشد السيفون على الأيام اللي فاتت، تعالى للسيدة زينب، واركب للزلزال.
...
يا أستاذ، يا أستاذ، العمر مش سرقة!
...
هاجت عليَّ ذكريات ودموع، بعد ما شاب شعري من قلّة العياط.
...
يا رب سلفني بتلاتة جنيه وقت، أو إديني سلطانية وإملاها لتمة عينها وقت.
...
حياتي زي إفيه مُركب، بالظبط زي حلم قديم لراجل عجوز بيحلم إنه بيحلم حلم قديم جَي من حلم قديم من بطن حلم قديم.. إلخ.
...
أنا يا دوب ولد شفاف زي ورق الكلك، متقلقل وشعره مفلفل، بيتمرن على الأحلام بالشعر ومش قادر ينسى رغبته في إنقاذ العالم.

* العنوان لأمل كعوّش

الخميس، سبتمبر ٢٩، ٢٠١١

آه يا حلو يا مسليني

التاكسي اللي عدي علينا وسمع غنانا .. لحق يسجّل كوبليه من الغنوه على الكاسيت، ولف بيها البلد، ويعيد ويزيد ويعيد ويزيد فيها لحد ما انتشى، ولما الشريط سفّ منه من كتر الإعاده، رجع لنا خجلان وقال لنا "تاني".

ودي حكايه مش جديده، دي حكايه قديمه جديده، بيحكيها الولاد للبنات، والتجار للزباين، والرصيف للشحاتين، والنهاردا لبكره، وبكره لإمبارح.

أما الحكايه التانيه فهي عن الترام اللي رماني في أحضانك ونوّلني من خدك بوسه ورماني بعدها بعيد عنك، لما ركبته لوحدي سأل عليكي، وكان مهتم، وكان زعلان، طيبت خاطره وفضل سؤاله سر بيني وبينه. لكن وقت ما دندن غنوتنا وهو بيتمخطر في السكه الدمع غلبني وغرق عيوني.

والحكايه التالته تخصك وحدك، عن عينيكي بالذات، المتكحلين بسواد المكر والدلال والهجر الطويل، اللي يشوفهم يحس دايمًا بعطش أيامه للحُسن والجمال، إلا أنا، من ساعة ما ريقك في حلقي سال من غنوه غنيناها سوا ولحق التاكسي يسجل منها كوبليه وحيد.

السبت، سبتمبر ٢٤، ٢٠١١

جرافيتي

اقرا المستقبل المرشوش على الحيطان، أمل بكره طوفان من رايات مرفرفة في الريح رايحة المظاهرة بكل خفقة قوية، مليون خفقة قوية، خفقة قلب مسموعة، وخفقة راية مرفوعة. طوفان من الرايات والروس سابح ينادي بأعلى ما في حسّه على شمس إسمها "حريّة" تبان، ومسيرة تخلّف مسيرة رايحة في طريقها لمصر الجديدة.

الاثنين، أغسطس ٠٨، ٢٠١١

مكرر: 4.24.2006 !!

باتمشى على شط بين جبال النثر على شمالى وبحور الشعر على يمينى، وأدوس على الرمال بالراحة وأسيب آثار أقدامى.. بس لما فقت لاقيتنى واقف على سور شباكى !
*
عربيات البلدية جت النهاردة تقص الأغصان الطويلة من على الأشجار، لكن المقص لا بيفرق بين غصن طويل وغصن قصير، شايف دلوقتي بعينيَّ غصن شبهى بيحاول الإختفاء ورا أطول الأغصان.

الأربعاء، أغسطس ٠٣، ٢٠١١

صفحة من كتاب المواقف

قال لي:
"عِيد الزمن من الأول، عِيده من تاني، عِيده تالت ورابع، ولو سألوك، قولهم إن في الإعادة إفادة، إفادة عن المستقبل الماضي والحاضر المتعاد،لا ندم ولا توبة، لا الإعادة إعادة ولا أنتَ أنتَ ولا المحطة الجاية حَ تفوتك، كل المحطات قبل الوصول فايتة."

كنّا نتمشى لحد الميدان ساعة المغرب والشجر بيهزّ أوراقه سلامات في وداع الشمس، والعمر اللي كرمش وشه وفتل عروقه هوَّ اللي خلّى الخطوة على قد العَرج، والكلام على لسانه بيفك حبس السنين الخُرس.

وقال:
"مش ضروري كل الزعل والقمص، ولا حتى كل الفرح والزينه، كله في معاده، بدايه ونهايه، لا قبل قبل ولا بعد بعد، وإن ترضى بحكمة الصبر والتأجيل، لا ترضى بكدبة الهزيمه والتسليم. لو الحياة للموت والنومة للصحيان والنهار لليل، يبقى ما تخافش تبدّل سعدك بأحزانك زيّ ما بتبدّل همّك بأفراحك."

وقفني في موقف أجره، وفاتني من غير كلمه زياده. كانت الناس حواليَّ رايحه وجايه بتلّف في رغيها وكلامها  ألف مدار ومدار، و عواميد النور اللي طفّت لون الغروب خليتني متثبت في مكاني بوداع متأخر عن معاده.

الخميس، يوليو ٢٨، ٢٠١١

من وحي أرض رجل – رجل

بعد سنين، بعد سن الخمسين، وهزايم تقيلة ومش نبيلة، وخساير ما لهاش مكاسب تعوضها، كانت عادة كل يوم إنه بيصحى بكابوس، يقعد على كرسيه الخاص ويتفرج منه على الماضي في شاشة التلفزيون المطفي.

الثلاثاء، يوليو ١٢، ٢٠١١

من وهم المرايات

-بإلهام من سمية ربيع-

5 يوليو 1944:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنة العشاق في زمنهم، على باب السينما مرسوم أفيش "رصاصة في القلب"، والساعة مستنيّة عقاربها تدق اتنين، لاجل الميدان يتملي طرابيش لابسة بدل على قمصان. كانت الشمس كبيرة وعالية، واقفة على دماغ الناس زيّ الحقيقة الواضحة، صالبة شعورها أسياخ تنخس ضهور الناس.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، حاضنين إيدين بعضهم بحبّ غرقان في ميّه عرق الخجل والخوف، هوّ كان لازم يلحق يروّحها البيت، وهيّ افتكرت لحن "بلاش تبوسني في عينيَّ" لما شافت الأفيش على الحيطان معروض.
على طرف الناصية وقبل ما يعدّوا الشارع وقفوا لحظة، حسّ إن فيه شئ بيشكّه، وما كانش عارف.. هوّ ده الحب اللي في قلبه؟ ولا قلقه من التأخير على المواعيد؟ ولا العرق اللي سايل تحت قميصه؟ عدى قدامهم عربجي بكارو شايل فوقيها مراية عريضة عريضة، عاكسة فيها صورة الميدان كله، بسّ الولد ما شافش من دا غير نفسه والبنت جنبه إيدها في إيده وقرص الشمس فوقهم زيّ الحقيقة الواضحة، شاف فيها باقي عمره منسوخ من اللحظة ديّه، والصورة ديّه.
لسّه العربجي بيعدي بحماره بالراحة جنب الرصيف، وهوّ على لسانه كلمة حُبّ حَ يقولها، جت بدالها نظرة واحدة طويلة طويلة، بتتكلم من غير نقط وحروف، والإبتسامة بعدها اترسمت على الشفايف هادية ومش خايفة من التأخير، وقرص الشمس اتقسّم بسن المراية الفايتة شموس أصغر.

5 يوليو 1977:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنّة للعشاق بسّ مقفولة، على باب السينما منشور أفيش "أفواه وأرانب"، والساعة بتدق اتنين إلا ربع في الفوّالة، اتنين إلا عشرة عند الكخيا، اتنين إلا خمسة في عدلي، واتنين في الألفي. والشمس الكيّادة فاردة شعورها خراطيم تنفخ لهيب يسيّح كل الجوامد.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، من زحمة الناس يقفوا كل خطوتين، والحَرّ لفّ حوالين رقابهم حبال من خيش وخلي طعم الكلام في حلقهم ماسخ، والحيرة اللي اتجمدت في قلوبهم دلوقتي بتتسرّب من بين ضوافرهم. كان سهل يتوهوا وسط الناس ويروح كل واحد في طريق وحده، بسّ السؤال اللي خايف من الإجابة، "إيه اللي كان قبل؟ إيه اللي يبقى بعد؟"، قيّدهم في بعض، لأن كل شئ مع الإجابة حَ ينفلت بعيد ومش راجع.
على الرصيف وقع لوح قزاز واتدشدش تحت رجليهم، الطريق اتفرش كسور وشظايا، ومن صورة واحدة بقوا ألف صورة متنتورين، ألف إيد وألف بق وألف عين. البنت حسّت إن الشمس اللي لمعت في فتافيت القزاز خزقت عيونهم بكل كره قديم وقسوة ممكنة، ودلوقتي هيّ خايفة من عماها تمد خطوة قدامها.
وبصّت في عيون الولد، كانت جفونه بتبربش على إجابة فيهم بترتعش.

5 يوليو 2011:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنّة العشاق المنسيّة، على باب السينما منشور أفيش فاضي مكتوب عليه "قريبًا" ، والساعة ممكن تدق اتنين في أي لحظة محتملة، والشمس كوره من الدهب بتتدحرج على وشّ العالم بتقل مؤلم، وتفتح جروح الناس بلسعة كرابيجها.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، هوّ دايخ والدنيا في عينه مايلة، مايلة على صدره الضعيف، وهيّ بتشبك نفسها في الأرض برجلين زيّ الفراخ، ولو تسلّم نفسها للنسيم السخن راح تختفي في عين الشمس، وكان التاجر القاعد في محله ورا البتارين كأنه ملك الزمن نفسه بيتفرج بعين ناعسة على الناس الجاية والرايحة، والبتارين هي شاشة تلفزيونه اللي بيشوف فيها كل ألوان الحياة.
أما الولد والبنت، فما حدش غيرهم من الماشيين خد باله إن البتارين بتعكس الصورة الكاملة، شافوا فيها الشمس كابسة فوق ضهر العالم، والناس غايمة زيّ البخار، بسّ فين هيَّ وفين هوَّ؟ كانوا أرفع من العواميد، وأطول من الشجر، أعرض من العربيات، وأقصر من الدكك، فيهم شئ بيضم سوا كل معنى ونقيضه.. الأمل واليأس، السعادة والحزن، الخيال والواقع، أو يمكن معنى أكبر من إن يكون له دليل في فهرس المعاجم.
مطرح ما عدّوا سابوا ابتسامات واسعة على كل البتارين، كسفوا الشمس الحامية وفضلوا ينوّروا في الميدان بدالها لحد المغرب وطول الليل.

الأربعاء، يونيو ٢٩، ٢٠١١

شظايا الزمن الفاصل

 -22-
أنا قلبي فرد حمام يطير ويرجع لي.

-23-
كل ما ألمس روح تتحول فراشة تطير ما ترجعشي.

-24-
كل ثورة بتنتفض.. كل حب بيتجدد.. العالم بيترعش لها كأن الكون بيتخلق من الأول تاني.

-25-
ممكن نتفق، مثلًا.. أنا أكبر والزمن يفضل يعيّل!

-26-
على كل شئ متأخر. كل قطوراتي على كل الأرصفة بتفوت.

-27-
افتكروا دايمًا إني عشت حياتي بأقاوم النعاس والنوم.

-28-
قالت لي: الحيّة اللي لسانك مش أكتر من فرّيرة صوتها عالي حبتين.

-29-
ربنا نحَت ملامحي بإيدين آلاف الأمهات.

-30-
الأوقات اللي ما كانش لها لا طعم ولا لون ولا ريحة في الذاكرة، بمرور الزمن اكتسبت من الخيال طعمها ولونها وريحتها.

-31-
ما عادش عندي كريمات تنفع لعلاج التشققات النفسية.

-32-
لأني أعمى، مضطر أخبط في الأحضان الغلط قبل ما إيدينا تتلاقى.

-33-
أقل شئ ممكن ينتصر على الموت.. زيّ إن النهار يتلون بجمال كلمة "صباح الفلّ".

الأربعاء، يونيو ٢٢، ٢٠١١

زيارة للسيّدة

القطار دخل المحطة بشويش وانفتحت أبوابه. نزل منها واحد شايل سلّة أكبر منه بعشرة الضعف، وبيتسرب من قعرها خيوط من رمل الأسود. لولا تقل الشيلة والحطة كان نزل وطي يبوس حديد القضبان واليافطة المكتوب عليها (السيدة زينب).

في طريق السّد البراني والرجلين بتحاول تجر خطوتها في الزحمة على قدام، عدى عيّل صغير وضحك وقال، "حوش اللي بيوقع منك". لولا كسوفه ما كانش رجع يلملم خيوط الرمل المتسرب وراه من السكة بإيديه.

لما وصل عتب المقام الأخضر، رمى حمله على الأبواب. النور وريحة المسك والبخور استقبلوه من جوّه، فجأة حسّ إنه اترفع في الهوا خفيف مفرود، خفيف طاير، واكتشف قد إيه أحماله كانت ضغطاه، وإنه أطول، وإنه أعرض، وإنه أوسع، وإنه منشور فوق المقام زيّ السما على الأرض. لولا حبّه العضم والمفاصل المربوطين كان زمانه اتبخر وما بقاش منه إلا حمله المركون على الباب.

أول خروجه الريح بخّت في عينه عفارها، تمتم بدعوة بإسم أم العواجز، واتوّكل على الخلّاق وشال السلّة من تاني، لولا إن جدر العصب انغرس في الأسفلت لحظة ما قام مهزوز كان جذعه انقطم واتدلدق الرمل الأسود من السلّة في كل مكان.

السبت، مايو ٢٨، ٢٠١١

بره المكان، بره الزمان

- أنتَ عارف إن ممكن ده ما حصلش؟
- إيه اللي ما حصلش؟
- اللي بيحصل دلوقتي!
- قصدك يعني إنه ما حصلش قبل كده؟
- لأ.
- أبقى مش فاهمك!
- بالراحة بالراحة.. عندك دليل؟
- دليل لإيه؟
- دليل للي بيحصل!
- ....
- طيّب .. إحنا فين؟
- إحنا.. إحنا في الزمالك.. لا لا.. في جاردن سيتي... إيه ده؟ الأماكن في بالي شبه بعضها ومش عارف إحنا فين! فين صحيح؟
- مش مهم.. والساعة كام دلوقتي؟
- مش معايَّ ساعة! مش عارف!
- شفت بقى؟
- لأ، دليلي إن أنتِ قدامي دلوقتي وبتكلميني، وإن الناس اللي رايحة وجاية لسه بتروح وتيجي!
- تعرف إسمي؟
- إيه؟.. إسمك.. إسم.. لأ.. مش فاكر الصراحة!
- يبقى دليلك ضعيف ومحتاج إثبات.
- قصدك إننا في حلم ولا خيال؟
- كل شئ وارد.
- طيّب وبعدين؟
- ولا قبلين. ممكن ترتاح هنا شوية معايَّ.
- أنا مرتاح، بس عايز أعرف الحقيقة. باحاول أفتكر وصلنا للحظة دي والمكان ده إزاي؟
- ما تحاولشي، خد عندك مثلاً.. أنا وأنتَ واقفين في نص الشارع دلوقتي، يا أخ.. يا أخ، بطل تفكير، خليك معايَّ هنا، الحاضر مش دايما محسوس، إيه الحاضر أصلاً؟ الحاضر كلمة هشة انحشرت بالغصب بين كلمة البني آدم وإسمها ماضي وكلمة ربنا وإسمها مستقبل.
- مش وقت شعر وفلسفة على فكرة.
- ليه؟
- عشان. إحنا. محبوسين.
- أبدًا، أنتَ دلوقتي بتعيش خلودك في الأبد.


- سكت ليه؟
- يعني أقول إيه؟
- قولي حاجة.. أي حاجة.. قول بحبّك.. قول كرهتك.. ما تزغر ليش قوي كده! أنتَ ممكن تموت هنا بالمناسبة.
- شكرًا.
- عفوًا. مش حَ تلاقي مكان ولا زمان أنسب من كده، صدقني.
- أنسب لإيه؟
- للموت .. أو الحب.
- يا سلام!!
- ما هو الإنسان لو مش بيموت .. يبقى أكيد بيحب.
- أو بيكره مثلاً.
- ما فرقتش كتير.
- لأ فرقت، الموت والحب والكره برضه لهم مكان وزمان، إحنا لا في زمان ولا في مكان.
- مين قال؟ إحنا في مكان وزمان بس مش عارفين إيه همَّ.
- أنا حتى دلوقتي مش عارف إحنا واقفين مع بعض بقى لنا قد إيه؟
- وعشنا سوى العمر ولا يومين.
- أنا حتى مش قادر أمشي لأني مش عارف أنا فين!
- نفسي أفهمك يا أخي. ليه أنت مصّر على إنك تعرف مكاننا وزماننا.
- عشان يبقى عندي إثبات إن ده بيحصل!
- وهو مهم؟ افترض إنه ما حصلش.
- ما حصلش إزاي وهو بيحصل؟
- وبعدين ما هو لو حصل حَ يكون خلص ويروح لحاله. لكن لو ما حصلش فهو عمره ما حَ ينتهي.
- أنتِ مجنونة.
- ممكن تقول للناس اللي بتروح تقرا روايات ومسرحيات خيالية ما حصلتش أكتر ما بتقرا كتب التاريخ اللي حصل إنهم همَّ كمان مجانين!
- ممكن.




- أنت عارف إن ممكن تكون بتحبّني؟
- ... !

الاثنين، مايو ٠٩، ٢٠١١

دورة العمل

إلى محمد مستجاب -رحمه الله-

أفاق من غفوته عندما سقط رأسه على صدره، نظر يمينًا ويسارًا، واطمئن أن لا أحد يراه، الكل مشغول في عمله تقريبًا. مسح لعابه السائل فوق شفتيه بيده ونهض من مكتبه، ثم خرج إلى الصالة الرئيسية، نظر إلى الساعة، الثانية عشر مساءً. شرب سيجارة، وتأمل الشارع من النافذة، أحس بملل الإنتظار يأكله، لم يأت إلى العمل اليوم إلا للإنتهاء من إنتظاره الطويل.

هبط إلى الدور الثالث. تجوّل بين المكاتب، مكتب التحرير، مكتب المتابعة والتحليل، سلّم على الزملاء، وتبادل الأحاديث حول حركة التغييرات الجديدة، عبر مكتب الشئون سريعًا كي لا يراه إبراهيم. في مكتب التصديقات، سأل على الأستاذ عباس، لم يأت إلى العمل اليوم، قرأ تاريخ اليوم على نتيجة الحائط، ثم خفض رأسه إلى صدره وزفر زفرة حارة.

صعد إلى الدور الخامس. صادف أمنيّة على الدرج، حيّاها بابتسامة زائفة، ردت عليه بتحية الصباح وتوقفت، فكّر ألا يتوقف من أجلها، لكنها سدت عليه طريقه. سألته عن أحواله، سألها عن رئيس الهيئة، أجابت أنها لا تدري. ربع دقيقة من الصمت مرّت، بدت وكأنها دهرًا مميتًا، كانت ترسل فيها نظرات تحمل إليه رسائل لا يريد استقبالها. تنهّد ثم ودّعها وأكمل صعوده.

دخل مكتب السكرتيرة. ألقى التحيّة عليها وجلس، انتظر حتى انتهت من مكالمة التليفون، ثم سألها عن رئيس الهيئة، لم يأت إلى العمل بعد، أخبرها أنه لا مانع لديه من الإنتظار. دخل الساعي حاملًا صينيته، سألته إذا كان يحب أن يشرب شيئًا، فنجان قهوة، عادت إلى أوراقها المتناثرة فوق سطح المكتب. حاول قضاء الوقت والتودد إليها ببضعة أسئلة واستفسارات لكنها كانت منشغلة تجيبه من بين الأوراق، هل باستطاعته التدخين، ومتى سيحضر بسلامته، وهل هناك أية أخبار عن الطلب الذي تقدم به إلى رئيس الهيئة، نظر إلى الساعة الموضوعة على المكتب، الساعة الثانية عشر وخمسة عشر دقيقة، الوقت يمضي في الهيئة أبطأ من كل ساعات العالم. طرق الساعي الباب، الرئيس هنا، خرجت السكرتيرة مسرعة، ثم عادت بعد عشر دقائق، الرئيس مشغول وسيغادر إلى مقر الوزارة خلال نصف ساعة، رفع رأسه إلى أعلى يائسًا وأطلق سبة في سره.

هبط إلى الدور الرابع. مر على مكتب زميله أسعد، اشتكى له توقف الحركة داخل الهيئة، الوقت والإجراءات، وتساءل يائسًا لماذا يطير اليوم في الخارج بسرعة بطريقة يبدو معها الوقت هنا جحيمًا أبديًا؟ طلب أسعد له كوبًا من الشاي، لكنه لم ينتظره، وقام يتجول بين المكاتب الأخرى في ردهة الدور، سليم يقرأ الجرائد، هناء تثرثر مع كريمة وهي جالسة على مكتبها، توفيق يشرب قهوته بلا أية عمل آخر. عبر الصالة الرئيسية، ونظر إلى الساعة، الساعة الواحدة وخمس دقائق.

اكتشف أنه أمام مكتبه.
ظلّ واقفًا.

الخميس، أبريل ٢١، ٢٠١١

سلامات أخيره

-1-
بعد ألفين سنه، حَ تحكي علينا كراسي المطاعم ودكك المحطات.
وكل شئ تاني حَ يسكت كأنه ما حصلش وما لهوش وجود عندنا.

-2-
بكره فيه أثر من إمبارح ما بيروحش بسهوله
ما بيتمحيش زي الأسامي ع الرمل ما بتتمحي من موجة بحر.
..
إمبارح حرق. وشم فيه صورته وإسمه وعنوانه، وبكره بيت مسكون بأرواح من إمبارح.

-3-
كبيت أباريق دمع السنين الفاتيه،
ما كل السنين عيطت في الوداع وأكتر قبلنا.
وخدت الليل والنهار في أحضاني ونمت وياهم،
ونورت طريقهم بالشموع واللمض،
ما همَّ دايماً غربا في سفرهم زينا.

-4-
زي البخيل بأحوّش كلام كتير
لكن بأحوش نفسي
قبل ما أبعت جواب من الوحشة والتوحيش.

-5-
خفت قوي لما مشيت ولاقيت خيالك عدي ورا ضهري كأنه ما يعرفنيش.

-6-
ما ليش في السرير مطرح
ما ليش في البيت مكان
ولا حتى كرسي في قهوه
ما ليش..
واقف بره دنياكي في ليل المطره
بردان ومبلول ومستني
تاكسي المرواح.

-8-
زيّ أول مقابله، كان نفسي أسألك وقت السلام الأخير.. "إسمك .. إيه؟".. !

-9.025302345-
افتراقنا كان انكسار صوره في مرايه مشروخه .. ومش أكتر.

-10-
في ليل عين شمس أو زحمة الملك فيصل كان صدري بيعبي الهوا بسواد دخانه، القاهرة كلها منسيّه تحت تسع طبقات من مستنقعات قطران، والضلمه تحت أبديّه لولا المآذن واقفه وحيده زي أبراج لاسلكي ساكته بتطفي وتنوّر وتطفي وتنوّر.
...
مصير الماشي يقف ويتأمّل.. لسّه فاكر ليله ما شفت العدرا في عينيكي، كانت بصر وبصيره، كان جلالك من جلال شمس فتّحت في عيني نهار، والقاهره اتغسلت عشانك ولبست توبها القديم، والساعه قصرت وطالت، والدنيا وسعت وضاقت.
...
راجع على سريري من غير نوم، وفي راسي ليله ساكته زي أبراج لاسلكي بتنوّر وتطفي وتنوّر وتطفي.

-0-
أصعب عشر دقايق
همَّ عشر دقايق
يروح فيها كل إحساس بالدفا وينسحب
بعدهم باتسمّر في الأرض بحقيقه بارده ومخيفه
كأني كنت ماشي في شارع مضلّم بأغني ومتوّنس بنفسي
وفجأه صوتي اتحبس !

-1111111111-
ساعه الحصار
يبان كل شئ مقاوح ضدي زي صخر في وش نحّاته
افتكرت نفسي أسير الفشل والضعف
وعملت نفسي ميّت ونطقت الشهاده
لكن عدت نسمه نفخت فيَّ رقتها وقوتها
وصححت الروح من تاني.

-12-
أنا كنت يونس ابن الهلاليه
وبقيت يونس ابن متّى النبي.

-13-
والحياه لما تراضيني تبقى في الرقّة متناهيه
زي الطبطبه بعد العرق والمكاسب والخساير.

-14-
فيه خيط نور من بعد غيم
نفس مريح من بعد خنقة
نبض خفيف من قبل موت
..
فيه لسّه روح.

-15-
ومفيش مشاكل
ما النهار زيّ المشارط
مشارط جراحين
شفرة سلاح
فِ إيد مجانين
أما الليل
قطن وشاش وقزازة يود شبه خلصانه !

-16-
ممكن أفوّت القطر اللي على الرصيف دلوقتي
وأستنى اللي جاي بعده
عشان أشرب شاي بلبن في قهوة المحطه
وأتأمل شويه في وشوش المسافرين
وأسباب السفر.

-½16-
لحظه غريبه
تشبك في لحظه قديمه
يصحى اللي كان نايم
بحبّة زعل..
وخلاص.

الثلاثاء، أبريل ٠٥، ٢٠١١

علاقة

هبت نسمة باردة في وجهه من رصيف المحطة عندما انفتحت أبواب قطار المترو التي كان يقف خلفها تماماً، هبط من القطار تائهاً بعد أن اصطدم بالركاب الصاعدين والتفت يميناً ويساراً بحثاً عن المخرج.
كانت تفاجئه من حين إلى آخر أثناء محادثاتهما بسؤالها الهستيري "أنتَ مش حَ تسيبني لوحدي؟".
قدّر من المرّة الأولى علّة سؤالها المتكرر على الرغم من كم الابتذال الذي يحمله بسبب مباشرته ووضوحه، فإن مرورها بعدد لا بأس به من العلاقات الخائبة مع الرجال منذ أن بدأت في الإرتباط بهم نتج عنه خوفها المرضي من الفشل والانكسار الذي أرغمها على استباق أحداث بينهما بمثل هذه الأسئلة.
كان يعجب كيف لإمراة مثلها تخشى الإخفاق كل هذه الخشية؟ لأنه ظن أنها ستكون أقل رهاباً من اللواتي لم يجربن الارتباط بالرجال من قبل، حيث أنها ستكون أكثر دراية بأسباب فشل التجارب العاطفية، ثم توصل إلى أنها ربما دخلت أغلب علاقاتها حاملة فوق ظهرها تاريخها الثقيل الذي لا تراه إلا أسوداً ولم تعتبر شيئاً إيجابياً مما مضى عليها، بل ربما كان سبب إخفاقها الأول هو أنها أدخلت تجربة إحدى صديقاتها الفاشلات في تجربتها الأولى، وربما كان سبب فشل الأخيرة منها سؤالاً كهذا.. لا أحد يدري، فكل هذه التصورات تبدو ساذجة ومضحكة !..
لكن الحقيقة الآنية أنه قد بدأ يضيق بذعرها هذا، والحقيقة التالية أنه قد خطر له بالفعل أن يتركها، لأن جروحها القديمة أصبحت تثير قلقه وتوتره حيال علاقتهما وتهدد بقاءهما معاً، بنفس القدر التي تدفعه إلى التمسك بها لأكثر من سبب، منها افتتانه الأول وانجذابه تجاهها، ومنها رغبته القوية في حمايتها من ضعفها، وإحساسه الداخلي بالواجب الإنساني العام، لذا كان يعهد إلى نفسه مسؤلية إحساسها بالطمأنينة.
كان يعلم إن أسئلة مباشرة مثل "أنت لسه بتحبني؟" و"أنتَ مش حَ تسيبني لوحدي؟" لا تصلح معها إلا الإجابات الحاسمة والصادقة، ولا يجدي التهرب منها داخلياً أو خارجياً. لكنه وجد في كل هذه الأسئلة نتيجة استفهامية واحدة أنه إذا كان بالفعل يحبها ولا يريد أن يتركها، فلماذا ينزعج من السؤال؟
قطع رنين جرس الهاتف المحمول في جيبه أفكاره، كان هي المتصلة، أجاب شارد البال، وأنهى المكالمة بكلماتٍ مقتضبة سريعة.
*
سارا متقاربين في مشية بطيئة متجهين إلى الميدان الواسع. كان الصمت سائد بينهما طوال الطريق، وكلاهما غارقاً في أفكاره الخاصة عن الآخر بعد لقاء فاتر.
عندما وصلا إلى بداية الشارع المظلم، ثبتا في مكانيهما لحظة لأن أضواء كل أنوار الدكاكين والمحلات وأعمدة الإضاءة العمومية في الجانب الآخر من الميدان غشيتهما فجأةً كإبر دقيقة توخز أعينهما بقوة، وارتفعت كل ضوضاء الميدان إلى أذنيهما صارخة من ضغط الضجيج.
ثم راحت الأضواء والضوضاء تخفت تدريجياً.

الاثنين، مارس ٠٧، ٢٠١١

Another Yellow Brick Road


تحت تحت. زلزال فوق الأرض زيّ حبّة رز بتتنطط فوق سطح طبلة. انهيار الدور السابع عَ السادس. الدور التاسع متعلق لوحده في السما! الهروب! الهبوط من قمّة تلال الخراب وأطلاله الرومانسية! يوتوبيا مقلوبة على ضهرها، راسها في التراب ورجليها في الريح زيّ روايات جول فيرن. ما عديتش على الكباري، كل عواميدها قش! مفيش طريق للخروج من المدينة، كل بواباتها اتقفلت! باحفر تحتي، احفر احفر لحد ما أوصل الطرف التاني من الأرض. تحت تحت تحت زيّ الخلد احفر.

الاثنين، فبراير ١٤، ٢٠١١

بوسة

أمرتنى أمي أن أصعد لأبلة (سامية)، كي أقضى عندها وقتاً حتى يتسنى لأمي الذهاب إلى الطبيب، كنت أشعر بالسعادة لأن (إيمان) إبنة أبلة (سامية) التي تكبرني بثلاثة أعوام سوف تجالسني هذه المرة، فقفزت إلى أحضان أمي وقبلتها. قالت لي قبل أن أخرج من باب الشقة، "ما تتشاقاش، هه؟".
تسلقت السلم درجة درجة ممسكاً بالحاجز الحديدي، وضوء النهار يسقط من أعلى حتى أسفل السلم، أكملت صعودي ثم توقفت عند الباب لاهثاً، طرقته طرقة خفيفة ثم تراجعت. فتحت لي أبلة (سامية)، كانت ترتدي ثوباً منزلياً باهت اللون، رحبت بي ودعتني للدخول، وسألتني في لطف "بقى عندك كَم سنة دلوقت؟"، أجبتها "سبعة ونص"، وبينما كنت أعبر طريقي إلى غرفة (إيمان) سمعت أصواتاً تعلو، فالتفت التفافة خفيفة ورأيت عمّ (عبد الباقي) في غرفة الجلوس مع رجل آخر، أكملت سيري نحو الغرفة، طرقت بابها مرتين قبل أن أسمع صوت إيمان يهتف "أدخل".
وجدت (إيمان) واقفة في منتصف الغرفة كأنها تنتظرني، قالت لي "تعالى اقعد يا حسين"، ثم تركتني وخرجت من الغرفة وجذبت الباب وراءها. كانت غرفتها الصغيرة منظمة، يتوسطها سرير عريض وسجادة حمراء مستديرة، ودولاب ملابس عريض يغطي أحد حوائط الغرفة، تقف فوقه عدة دمى. فكرت أنني عندما أعود إلى غرفتي سوف أرتبها مثلما رأيتها ترتبها من قبل. كنت أحب مجالسة (إيمان) لي، حيث أنها كانت الأقرب إلى سني، ونادراً ما رفضت اللعب معي، ومشاركتي القصص التي كنت أرويها لها.
عادت إيمان تحمل صندوقاً مغلقاً. لاحظت أنها متجهمة، وضعت الصندوق فوق السجادة، حاولت أنا نزع غطاءه ولم أفلح، ففتحته هي، وأخرجت منه بعض الألعاب الصغيرة والدمى، وجلست أفكر بماذا نلعب هذه المرّة، قلت لها "تحبي تلعبي بإيه؟"، قالت شاردة البال "أي حاجة"، فعدت أخيّرها حتى أجعلها تنتبه "تحبي تاخدي البنت والولد وأنا أرتب العيال على الكراسي؟"، كررت بنفس شرودها "أي حاجة"، صحت فيها، فأخذت الدميتين من يدي بعنف ووضعتهما أمامها، شعرت بالحزن، عدت للبحث عن ما تبقى من الألعاب والدمى التي أخرجتها، وبينما كنت أبحث داخل الصندوق وقعت يدي طائر خشبي دقيق الهيئة بلا رأس، هتفت من الإعجاب "الله ! حلو قوي .. بس فين بقيته ؟"، أجابت ضجرة "بابا كسرها"، فتشت داخل الصندوق عن بقية الدمية حتى وجدت الرأس، أخذت جسد الطائر ثم جمعته برأسهِ لكنه لم يلتصق فيه، اعترضتني (إيمان) بصوتٍ حزين "ما تحاولش.. مش هيتصلّح"، فكرت قليلاً وأنا أنظر إلى الطائر، ثم أخذت أحاول إصلاحه بطرقٍ عديدة حتى استطعت ثبيت رأس الطائر في جسده والتئم جزءا الدمية ببعضهما.
اختطفت (إيمان) الطائر من بين يدي في سعادة، ثم رفعته عالياً وحركته يمنى ويسرى في وضع الطيران ثم ضمته إلى صدرها، اتسعت ابتسامتها على شفتيها، كم سعدت لحظتها بنظرات الفرح التي كانت تغمر بها طائرها الخشبي، ظلّت تردد عبارات الشكر والعرفان قائلة "أنا أحب اللعبة دي قوي"، ثم أخرجت قطعتين من الحلوى المغلفة وأهدتهما إليَّ، في تلك اللحظة شعرت بالخجل من امتنانها ولم أدر كيف أجيبها، فاقتربت منها وقبلتها على وجنتها سريعاً أثناء انشغالها باللعب بطائرها، أدارت وجهها إليَّ في ذهول بينما كنت أعود إلى موضعي السابق بجانبها، وأخفضت وجهي إلى الأرض، سكن كل شئ للحظات، وشعرت بالخطر في هذا السكون، ثم سمعتها تقول بصوتٍ مبحوح "هأقول لماما" وانطلقت تجري خارجة من الغرفة، قفزت خلفها لكنني لم أستطع اللحاق بها فبقيت في مكاني خائفاً، فكرت دقيقةً بالتسلل خارج الشقة، لكن أمي لم تعد بعد من عند الطبيب، شعرت بالرهبة وظللت في مكاني على الأرضية خائفاً، هل ستخبر والديها؟
سمعت صوت أبلة سامية ورنين أواني معدنية تسقط، فاقتربت من باب الغرفة، ورأيت (عم عبد الباقي) يقطع الصالة إلى المطبخ ووراءه الرجل الآخر الذي كان جالساً معه، تراجعت إلى طرف السرير والتصقت به، لم أعرف ماذا يحدث ؟، ولا أعلم لِمَ تخبر إيمان أهلها؟!
مرّ وقتاً حتى دخل الرجل الغريب عليَّ الغرفة، انحنى وأمسك ذراعي بقوة وجذبني كي أقف، جلس على المقعد وأنا بين يديه، نظر إليَّ بحدة من فوق إطار نظارته ثم سألني، "إسمك إيه يا حبيبي؟"، أجبت برهبة:
-حسين
- بابا فين يا حسين؟
- .. مسافر
أطلق زفرة حارة وصمت قليلاً، ثم سألني:
- أنتَ عارف أنا مين ؟
هززت رأسي أن "لا"، فقال،"أنا خال إيمان"، ثم أضاف:
- أنتَ عارف إن اللي عملته ده غلط؟
- أنا متأسف.. ما كانش قصدي يا عمّو.. هي اديتني البونبوني وأنا كنت بأشكرها.. أء..
قاطعني لائماً، "أنت عارف إنه ما يصحش الولاد يبوسوا البنات؟"، لم أعرف كيف أجيبه، أبعدت نظري عن وجهه بينما كانت الأصوات القادمة من خارج الغرفة تعلو أكثر، سمعت عمّ (عبد الباقي) ينادي الخال، "يا مصطفى.. يا مصطفى"، صاح الخال، "أيوه"، ثم نهض تاركاً إياي وخرج مغلقاً الباب خلفه بقوة، هدأت الأصوات مرّة واحدة، ظللت صامتاً مترقباً ما سوف يحدث، مضت الدقائق وأنا أنظر إلى الباب المغلق والملابس المعلقة فوق المشجب، كنت أود الخروج من هنا، اتجهت إلى الباب، لم أجرؤ على فتح باب الغرفة وإلقاء نظرة خارجه، نظرت من ثقب المفتاح فلم أرى إلا كنبات غرفة الجلوس شاغرة، وضعت أذني على الباب وأرهفت السمع فلم أسمع شيئاً، كأنه لم يعد هناك أحد بالمنزل، التقطت الطائر الملقى على الأرض بينما كنت أعود إلى المقعد، تذكرت القبلة الخاطفة، وفكرت في أمي، ماذا سوف تقول وتفعل إذا أخبروها بما حدث؟، انتظرت عودة أمي بصبرٍ نافد، أخفيت وجهي بين يديَّ، ثم تطلعت إلى الباب مرّة أخرى.

السبت، فبراير ١٢، ٢٠١١

وللدمّ النبيل كرامة


خُد العلم من إيد الشهيد وإمشي في طريقه. آدي دمه بيجري قدامك وشق لك سكّة. اللي يعرف معنى كلمة "دم" يعلم إنّ الدمّ غالي، لأنه قصاص للحيّ قبل ما يكون للشهيد، لأنه شقا مبذول ساعة حق، ولأنه نبضة قلب صادق ضميرها، لولاه ما كان الطريق صبّح لنا واضح ومستقيم، ولولاه ما كان طلع علينا النهار رايق وسليم. الحياة أصعب ما دام الطريق اتفرش بالدمّ، والبقعة منه زيّ الحرق على صدر الناجي، علامة إن الحاضر شايل كرامتين وإنسانيتين: الشهيد ونفسه.

الجمعة، يناير ٢١، ٢٠١١

الأغاني

عمرك سفرك بيتمدد قدامك في سكه صحراويه طويله من الملل واليأس وأنتَ تملاه بالأغاني! 
إيه الأغاني؟ 
ما هياش بساط الريح تركبه وتطير به أو شلالات فاكرها جايه من ضهرك وراح ترفعك تحتها لحد آخر السكه وأول النبع! 
إيه الأغاني؟ 
الأغاني للمسافرين يمكن تكون سراب اللي نسيوا إن العطش دايماً وراهم والعطش هوَّ اللي قدامهم، ويمكن تكون نجوم بتنوّر وتطفي في الضلمة من غير سبب! 
بس الحقيقة إن كل الأغاني ورود دبلانه في اللحظه اللي فكرت فيها إنك توقف بس عشان تشم عبيرها! دي الأغاني مطرح ما تمشي تلاقيها مرميّة على الجنبين!

الخميس، يناير ٢٠، ٢٠١١

يومية شتوية

كتب في آخر رسالته:
"أنا بردان . بردان قوي . ربنا يبعت الغطيان"
وبعتها. واستسلم لموته اللي انعاد عليه كل ليلة من الشتا، تنسحب منه الروح في دنيا فيها الأشباح تقوم الليل لتعذيبها، ويقوم هو من النوم مضعضع هزيل شاحب كأنه كان مدفون تحت رمل الصحارى.

صرخ أول ما صحي من النوم:
"يا ريت محدش يكلمني النهاردة"
وسكت. لأنه فزعان طول الوقت من عيون الناس وأحضانهم وأياديهم، فيفضل دايما هربان وبيجري بعيد عنهم. مع إنه كان في نفس الوقت مستني حد يتكعبل في قلبه ويقول له بابتسامة سمحة.. "صباح الفلّ".

وشوش في آخر اليوم:
"آه وآه يا كَسرة قلبي"
ووقعت دمعة من عينه. شالت فيها كل الحنان والنقمة عَ العالم، سخنة بلون الحرايق على وشه الرمادي اللي لوّنه الوحدة. ما مسحهاش وسابها تسيل وتشق لها وادي في خدوده.

سأل في أول المكالمة:
"إزاي يطيق الإنسان سواد نفسه؟"
وما استناش رد. قفلّ تليفونه، وحط لوح القزاز اللي بيحطه كل يوم بينه وبين الناس، وقعد يتفرج عليهم وهمَّ بيعدوا قدامه وكلهم مشغولين وعاملين مشغولين. ولما نادى عليهم، صوته ضرب القزاز ورجع له خايب ومتقطع.

دعا في آخر مناجاته:
"يا رب، خدني في جملة المتونسين برضاك أو خدني بس!"
وطلق تنهيدة. غمض عينيه بعدها، ونشر ضهره على السرير لكرابيج تنزل عليها طول الليل.

الأحد، يناير ١٦، ٢٠١١

الحَكّة

كلما سمع أقداماً تصعد أو تهبط الدرج، قفز من السرير، حتى يبدو عليه أنه كان مستعداً للمغادرة. لم يعد إلى السرير هذه المرة، فقد كرهه بعد أن بقى فيه ساعات الليل والنهار كلها لا يفعل شيئاً إلا أن يحملق في السقف، ظل واقفاً عند النافذة يتأمل في بلادة الأضواء المنبعثة من الأعمدة القريبة وأصحاب المتاجر الجالسين عند أبواب متاجرهم والسيارات العابرة والمارة، لم تكن في يده ساعة يتعرف بها على الوقت، لكن انطلاق أذان المغرب أثار توتره، حكّ رأسه بقوة مفكراً، أزعجه أرق الليلة الماضية، قلّب فكرة النوم في خاطره مرة أخرى، لكنّه إن لم يغادر الآن فسوف يقع شجارٌ عنيفٌ بينه وبين شريكه في الشقة.
ترك النافذة ودخل دورة المياه حيث التقط قميصه الكالح، امتعض لاتساخ بدنه من كثرة النوم والإستيقاظ حتى أصابته الحكّة في أماكن عدّة، تثاءب وفكر في نوبة استحمام سريعةٍ، وبينما كان ينزع قميصه مرة أخرى، سمع طرقات سريعة عالية، أفزعته، جحظت عيناه، وأمسك أنفاسه، شلّت أطرافه، وتأهب متحفزاً، سمع أقداماً بطيئة تصعد الدرج وأخرى سريعة تهبطه، ارتدى قميصه على عجل، ثم تأكد من إغلاق الباب، مرت دقيقة بطيئة صامتة لا يُسمع فيها إلا ضربات قلبه القوية المتسارعة، ثم تمالك نفسه أخيراً وخرج مديراً عينيه الجاحظتين في أرجاء الشقة، لم يجد أحداً غير الضوضاء الصاعدة من الشارع.
أراد أن يشرب كوب شاي واحد يهدئه قبل المغادرة، وضع البراد تحت حنفيّة الماء وفتحها، وجد أن المياه مقطوعة عن الشقة كلها، وتذّكر أن شريكه أغلق المحبس بالدور الأرضي قبل ذهابه إلى العمل، حتى يرغمه على الرحيل بعد أن فصل من عمله وانقطع عن دفع نصيبه في الإيجار لشهورٍ عديدة، أعاد التفكير في احتمالات صعوده في كل لحظةٍ تمر، سرت في جسده رعشة لمرور ذلك الخاطر في عقله، ربما يستطيع التوسل إليه لأن يبقى يوماً آخراً، جاب الردهة القصيرة المؤدية إلى الغرفة فارجاً ساقيه وهو يحك النيران المشتعلة ما بين فخذيه متردداً بين البقاء والمغادرة، عاد إلى السرير حيث سحب حذاءه، تقدم تجاه الباب في خفة وفتحه، هبط الدرج حذراً، ثم قفز خارج المنزل إلى الشارع العمومي مسرعاً حتى يتجنب مصادفته في الطريق.
فى شارع الرئيسي أحس الليل حاراً ولزجاً، دس سيجارة بين شفتيه، وظل يمشى بها سليمة، أوقف أحد العابرين وأشعل سيجارته، سحب أنفاساً متلاحقة، تنهد بارتياح، طوّح ساقيه في جهة نهاية الشارع إلى النيل، سأل نفسه هل يستطيع العودة إلى الشقة لالتقاط ما تبقى من أشياءه؟، لكنه لم يجد إجابة واضحة داخله. عند الكورنيش، عشاق وأزواج متراصين مثل الأشجار التي يجلسون حولها، وكوبري ممتد حتى الضفة الأخرى من النيل يحمل فوقه مئات السيارات، جلس على أحد المقاعد الشاغرة، ثم خلع حذاءه ووضعه بجانب المسند كيلا يسرقه أحد، ومدد جسده على المقعد وأسند قمة رأسه إلى المسند ورقبته فوق الحذاء واضعاً ذراعه فوق عينيه حاجزاً ضوء الشارع البرتقالى عنهما.
مرت الدقائق تليها الساعات وهو يقف فوق الحاجز الذي يفصل بين اليقظة والنوم، يغفو ويفيق، تضايقه همسات المحبين وخلافاتهم، شرطى يتحدث فى جهازه اللاسلكى، ولا يكف عن إصدار التوجيهات وإرسال الضحكات السمجة، أطفال يلاحقون بعضهم البعض بثيابهم المتسخة حول مقعده ويتقاذفون فيما بينهم مخلفات الشارع، زقزقة العصافير على الأغصان، الحرارة والرطوبة التى تجعل الجو كالصمغ، لم يصدق أنه قد نام حقاً إلا عندما استفاق تماماً وأدرك أن الوقت صار فى آخر ساعات الليل.
استقام فوق المقعد، تثاءب طارداً النعاس، فك صدر قميصه، مرر يده فوق عنقه وصدره اللذان يغمرهما العرق، ظل يحكّ جسده بأظافره الطويلة ثم قام من مكانه، تساءل لماذا شعر بالقلق وأحسّ كأن شريكه يراقبه أثناء نومه؟، نزل الدرج الصغير حيث النيل والقوارب المعقودة إلى الشاطئ، قفز إلى واحد منهم، كان يعرف أحد أبناء أصحاب هذه القوارب، وجد صاحب القارب العجوز يجلس مقوس الظهر على حافة قاربه، التفت العجوز وراءه ليرى القادم، فألقى السلام عليه، لكنه لم يرد عليه سلامه، لاحظ أن العم العجوز يمسك بين يديه كوباً من الشاى، التفت جواره فوجد البراد على نار الموقد الصغير يغلى وعدّة الشاى بجانب الموقد، سأله عن ابنه، فأشار إليه برأسه حيث القارب الذى يضج منه أغنية شعبية وتتراقص أضواءه باهتزاز القارب يمنةً ويساراً من رقص ركابها جميعهم عليه.
حضّر شاياً لنفسه، أمسك بالكوب من قاعدته، وسحب سيجارة من جيب قميصه، أشعلها من نار الموقد، ثم وقف على حافة القارب المهتز، شرد قليلاً وقلب فكرة فى نفسه، انحنى ووضع الكوب الذى لم ينتهى منه، وسحب نفساً أخيراً من سيجارته ثم أطفأها في قاع الكوب، نزع قميصه وبقى ببنطاله الجينز، وانحنى مرة أخرى على الماء ومسح ذراعيه ورقبته وصدره العارى بالماء البارد، ثم استعد في وقفة مستقيمة وقفز فيه، غاص للحظات ثم ظهر على سطح الماء، اقترب من القارب، وفرك كتفيه ونحره عدة مرات، شعر براحةٍ وبخدرٍ لذيذٍ يتسلل إلى أصابع أقدامه، مدّ ذراعه وانطلق يعوم، ويعوم مع تيار النهر المظلم، والعجوز يراقبه بعينين ناعستين.