الأربعاء، أكتوبر ٢٠، ٢٠١٠

شتاء السويس 1965

سلّم الأب العامل على ابنه بعد أن استلم الطعام المحمول إليه من البيت، ثم جذبه من ذراعه وأشار باتجاه الشارع المظلم المقابل لبوابة المصنع وقال "الطريق اللي عايز ترجع منه طويل ومحتاج عربيّة الشغل .. ده أقصر"، وأوصاه قائلاً "ما تخافش، أنتَ كبرت .. سلّم على الحاجة وأمك واخواتك"، ثم غادره عائداً إلى عمله.

بدأ الإبن سيره بخطوات ثقيلة مترددة. تذكر ما قالته أمه أن هناك أرواحاً شيطانية تسكن الشارع منذ وقت الحرب، وأنها هي التي خرّبت كل محاولات البلدية لإنارته، "كان لازم تنسى عشاك النهاردة يابّا؟".
غطي أنفه بيده مخففاً من استنشاقه لرائحة الأوحال الكريهة التي تناثرث في الطريق، وبقع شحم عربات النقل والسيارات التي تلوث جوانبه، حاول أن يشغل عقله في أي شئٍ آخر بعيداً عن طريقه المقفر، فيما سيفعله عندما يصلّ إلى المنزل، "العشا وكوباية الشاي السخنة والسرير وغطا تقيل يدفيني". فكّر في الطريق الآخر الذي يحبه ويحب أعمدة الإضاءة الساهرة فيه، وما أن جاءت صورة الأعمدة في خياله، حتى أضاءت الأعمدة ثم انطفئت مرة واحدة، تصاعد الخوف إلى حلقه، هرول مسرعاً أكثر.
سمع نباح كلاب يتردد في الأرجاء، التفت حوله في كل جانب حتى وجدهم، كان ثلاثة منهم قابعين على الأرض ينظرون إليه بأعينٍ باردة، وثلاثة آخرين يقفون متأهبين كأنهم كانوا بانتظاره، أبطئ قليلاً في مشيه، وراح يعض لسانه من الخوف، شعر كأنهم يتعقبونه بخطوة بخطوة، وتخيل أحدهم يقفز ناهشاً لحمه إذا ما حاول أن ينحني لإلتقاط بعض الحصى، تملّك الفزع قلبه، ولم يجد بُداً من الفرار، أخذ يجري ممسكاً أنفاسه، انطلقت الكلاب خلفه وهي تنبح، تعثّر في حجر وكاد أن يقع على وجهه.

صرخ الأخ الواقف في أخيه الذي انكمش أمامه لاهثاً:
"أنتَ إيه أخرّك؟ .. أمك قلقانة في البيت وأنا تلّجت في مكاني مستنيك .. مالك واقف كده ليه؟".
اتسعت عيناه ذهولاً لمّا رأى المياه تتدفق في حوض بنطال أخيه.