الثلاثاء، ديسمبر ٠٧، ٢٠١٠

شجرة جديدة في شارع الجمهورية

كنت عاوز أقولك:
بكره .. الزمن حَ يحليكي ما بين صيف وربيع. من هنا ورايح الناس مش حَ تشوفك إلا شجره ذكيه وجميله، رقيقه ونشيطه، تطرح سنه لمون، وسنه برتقان. وأنا وأنتِ بس الوحيدين اللي عارفين سرّك، رحلتك من ضلمة الطين لضيّ الشمس، الأيام العاصفه البارده، والأيام الرايقه الدافيه. حَ يحتار اللي يشوفك في أولك وآخرك ويتشابك في أغصانك بغيّره ومحبّه. مع إن الحكاية بسيطة جداً، لها بذرة في بطن الأرض قبل ما تفرّع جذور وأوراق وتبقى إسمها شجره على إسمك.
بعد بكره .. الزمن حَ يقلب شتا وخريف، والصُفره تزحف على ورقك، والعَجَز يدبّ في قشورك. ساعتها ما لكيش عَزا في نفسك غير بذره تحت الأرض شالت في قلبها سِرّ حياتك وسِرّ مواتك.

الجمعة، نوفمبر ٠٥، ٢٠١٠

مشهد

كانت دمائي تلوث كل شئ حولي، بنطالي وقميصي والسرير وثيابها والمنشفة التي كانت تجفف صدري العاري بها. كانت تريد إكمال مهمتها لكنني لم أستطع تحمل ألم مرور يدها بالمطهر فوق الجُرحين العريضين اللذان يشقان أعلى بطني، أمسكت معصمها بقوة قبل أن تصل إليهما وقلت لها "كفى!". مضت دقيقة وهي تحاول تخليص معصمها وتنظر بشفقة في عينيَّ المشتعلتين بنار جروحي الدامية، أفلت يدها ثم نهضت لأقف أمام المرآه، أخرجت رباطاً مطاطياً طويلاً من جيبي وشرعت في ربطه حول صدري من أجل إخفاء الجرحين. التصق صدرها بظهري وظهر وجهها في المرآه فجأةً، كانت تريد أن تساعدني في ضبط وضع الرباط على الجرحين، أحكمته كيفما اتفق وتركتها وحدها أمام المرآه.
كان الألم يخترق رئتيَّ ومعدتي، والرباط يضغط صدري كلما حاولت التنفس بعمق. رائحة الدماء تزكم أنفي حتى شعرت أنَّ حوائط الغرفة هي الأخرى تنزف دماءً مثل صدري، وفكرت أن هذان الجرحان يحتاجان إلى هواءٍ آخر نقي للشفاء خارج هذه الغرفة.

الأربعاء، أكتوبر ٢٠، ٢٠١٠

شتاء السويس 1965

سلّم الأب العامل على ابنه بعد أن استلم الطعام المحمول إليه من البيت، ثم جذبه من ذراعه وأشار باتجاه الشارع المظلم المقابل لبوابة المصنع وقال "الطريق اللي عايز ترجع منه طويل ومحتاج عربيّة الشغل .. ده أقصر"، وأوصاه قائلاً "ما تخافش، أنتَ كبرت .. سلّم على الحاجة وأمك واخواتك"، ثم غادره عائداً إلى عمله.

بدأ الإبن سيره بخطوات ثقيلة مترددة. تذكر ما قالته أمه أن هناك أرواحاً شيطانية تسكن الشارع منذ وقت الحرب، وأنها هي التي خرّبت كل محاولات البلدية لإنارته، "كان لازم تنسى عشاك النهاردة يابّا؟".
غطي أنفه بيده مخففاً من استنشاقه لرائحة الأوحال الكريهة التي تناثرث في الطريق، وبقع شحم عربات النقل والسيارات التي تلوث جوانبه، حاول أن يشغل عقله في أي شئٍ آخر بعيداً عن طريقه المقفر، فيما سيفعله عندما يصلّ إلى المنزل، "العشا وكوباية الشاي السخنة والسرير وغطا تقيل يدفيني". فكّر في الطريق الآخر الذي يحبه ويحب أعمدة الإضاءة الساهرة فيه، وما أن جاءت صورة الأعمدة في خياله، حتى أضاءت الأعمدة ثم انطفئت مرة واحدة، تصاعد الخوف إلى حلقه، هرول مسرعاً أكثر.
سمع نباح كلاب يتردد في الأرجاء، التفت حوله في كل جانب حتى وجدهم، كان ثلاثة منهم قابعين على الأرض ينظرون إليه بأعينٍ باردة، وثلاثة آخرين يقفون متأهبين كأنهم كانوا بانتظاره، أبطئ قليلاً في مشيه، وراح يعض لسانه من الخوف، شعر كأنهم يتعقبونه بخطوة بخطوة، وتخيل أحدهم يقفز ناهشاً لحمه إذا ما حاول أن ينحني لإلتقاط بعض الحصى، تملّك الفزع قلبه، ولم يجد بُداً من الفرار، أخذ يجري ممسكاً أنفاسه، انطلقت الكلاب خلفه وهي تنبح، تعثّر في حجر وكاد أن يقع على وجهه.

صرخ الأخ الواقف في أخيه الذي انكمش أمامه لاهثاً:
"أنتَ إيه أخرّك؟ .. أمك قلقانة في البيت وأنا تلّجت في مكاني مستنيك .. مالك واقف كده ليه؟".
اتسعت عيناه ذهولاً لمّا رأى المياه تتدفق في حوض بنطال أخيه.

الجمعة، سبتمبر ٢٤، ٢٠١٠

الحب في المقاطع

-1-
الحب قاد شمعتين فينا كانوا ضينا ليلة ما مشينا جوه فدادين الوقت المفتوحة.

-2-
كان المكان اللي جمعنا بعيد عن الأرض بشوية،
وبعيد عن السما بمسافات،
وقريب من الحلم بخطوة.

-3-
الإيدين على مفتاح الراديو في أول النهار، أغنية لليلى مراد من البرنامج العام، وفي لحظة واحدة بقينا لحنين ناعمين في فضا الأوضة يترددوا للأبد.

-4-
وكأن جبل العذاب اللي شيلناه اتبخر من حرارة ضحكة رايقة في ساعة صافية.

-5-
فاض لبن الأمومة من صوتك لما ندهتي إسمي.

-6-
كده تبقى نهايات حواديتنا السعيدة حركة تقدمية !

-7-
على سكة بتوديك وسكة بتجيبك
والزحمة للناس زي خنق الرقابي
يستحيل تبقي في طلوع الروح لوحدك !

-8-
حرموني ضلّ الشجر،
حرموكي نومة الجنانين،
وما كانوش عارفين إنهم من نصيبنا الجاي.

-9-
وطلعت عليَّ شمسك بتضحك.. لحظة ما رديتي "صباح النور".

-10-
يا أول الطريق اللي ما لوش آخر.

-11-
كل اللي قلناه،
وزعلني وزعلك،
بكرة هييجي من نفسه
ويطيب خاطرنا.

-¼11-
شايك من إيدي أول ما جيتي،
غيرتي ريقك من مرار اليوم.

-12-
أربعة وأربعين دقيقة كانوا محسوبين بعقارب الساعة كان فيهم معنى العمر اللي عشت عشانه.

-13-
كل ما تسكني في إمبارح هتفضلي بكرة معايَّ.

-14-
رسالة قصيرة:
هأوصل بالليل متأخر، ولما أصحى من النوم، هأكلمك بكره في التليفون، وممكن أعزمك على شاي، اتنين شاي، وشاي لاتنين..

-15-
وتفضل لك ابتسامة سايحة في عسل العيون 
دليل ما كان من الشكر الواجب للحُب.

-16-
كنت بأشهق من كابوس طويل..
وأنتِ بسرعة دسيتي إيدك في صدري وقبضتي بيها على قلبي ولحقتيني من موتي.

-18-
فين الأغاني اللي تزّهر ولا تدبلش بطول الأيام؟

-19-
أول ما أصحى كل نهار بأحضن من شوقي الشمس اللي في بزازك.

-20-
إمتى عرفت إن أنتِ أنتِ؟
كان عندي ست سنين، نفس الليلة اللي أنا وأمي كنّا واقفين على شبّاك الهيئة قبل المرواح، بنتأمل في السما المبقعة بالنجوم وهي تحت رجلينا وشارع طلعت حرب في عربياته وناسه ودوشته نازلة من فوقينا.

-22-
شفتك شايلة شنطة
بتعدي إشارة مرور
لمعتي في عين الشمس
وأنا اتعميت بالنور

-22-
فى أيام شتوية تشبه لدى، نتكلفت بالبطانية ونضلم الأوضة ونقعد نتفرج على فيلم كئيب وفى نهايته نفضل نعيط على السنين اللى ما عرفناش بعض فيها وآخرتها ننام مطرح ما احنا قاعدين وأنتِ نايمة على حجرى وراسك على كتفى والبطانية بتضمنا وتدفى صدرنا. 

-24-
خلي الحُب في سِرّ تسبيحك..
يعينك على الصبر،
والصبر يعينك على الشقا،
والشقا يعينك على الدنيا،
والدنيا والشقا والصبر 
يخلصوا في الجنة
والحب ما ينتهيش.

-25-
أما القزاز طَقّ من الصريخ،
جت الأحضان تلم كل الجروح.

-26.5-
يا هل ترى سمعتي سؤالي في همستي في أول مقابلة وأنا بأودعك.. "أنتِ مين؟" .. ؟!

-27-
الساعة في الميادين نسمعها بتكتكاتها، الوقت الوقت، وإحنا نطير فوق لسعة عقاربها، زي العادة، لو كنت ناسي، فأنا قصدت إني أنسى.. أكيد قاصد.. خليت النهر بوصلتنا، ولوحدنا مشينا بعيد. فكرت لو إني مش بأضيع في السكك اللى مشيت فيها من قبل، ودايما أمشي وقلبي مش هايب، كان زماني مهجور في وسط الشوارع لوحدي. قلتها لو نتوهم سواد الليل يبلعنا وينفينا فيه، قالت لي الوقت الوقت، وأنا رديت يسقط يسقط كل الوقت !

-28-
وقت ما تبعدي توحشيني، بأحسّ بالشقا من التوهة والقلق والحيرة، وروحي بتحرقني من الشوق تشوف الصبح رايق من الأمل اللي في عينيكي.

-29-
آدي شارعك المشّجر هادي لكن قصير ..
ممكن تحطي إيدك في إيدي قبل ما زعقة العربيات تفرقنا من تاني ونعدي لأول صفوف  القيامة حاضنين إيدين بعض؟

-300-
يا ريتنا قلّتين على باب جامع قديم يسقوا اليوم الرايح واليوم الجاي.

-31-
كلمتك حلّت فنجاني، طلعت ضحكتي تجري بجلاجل.

-32-
تيجي نتسابق على سلم برج الجزيرة ؟
يمكن لو وصلنا الدور الأخير نقابل بكره بذاته ويقولنا سره !

-33-
بعد ألفين سنة
هينزل النور على الميدان في المغرب كأنه الصبح
ويتبقى لنا احتمالين
يا أنا وأنتي ويّا الناس
لا أنا ولا أنتي ولا الناس

الأحد، يوليو ٠٤، ٢٠١٠

الشمس

-.. وبعدين ؟
ولا قبلين، عادي، لو كنت ناوي أموت هنا .. ودلوقتي .. يبقى هأموت تحت رجليكي، والتشخيص: التعرض المباشر إلى حرارة الشمس العالية لفترة طويلة من الزمن تسبب تسارع تنفسي وقلبي وانخفاض شديد في ضغط الدم مما أدى إلى الوفاة... بإختصار "ضربة شمس". لو كنت ناوي أموت هنا دلوقتي.. كنت هأموت لوحدي متمدد على الأرض من شعوري بالقهرة منك، وأبداً ما هيبقى في العمر الطويل عزايَّ ما دمت مُت غريب زي كلب وحيد في صحرا فاضية، وأخلص عند الناس كلهم بفعل كان محدش شافه بيحصل.
- و"دلوقتي هنا" إيه اللي فاضل لك؟
مفيش، حبّه من نفس معافر، وقلب ينطح في صدري عشان أمشي خطوتين، بيت شعر على لساني، إسمي وعنواني، فزع أمي عليَّ، وصورة بعيد منقوشة في بالي، وخيال الأماني اللي من حرارتك بيتطاير، وكل شئ تاني باين لي سراب إلا أنتِ، وحدك أنتِ بقسوتك وجنانك تحط روحي في ضمة إيدك، متعلق في دراعك لأنك باقية لي طول سكتي من دون الناس..

الخميس، يونيو ١٧، ٢٠١٠

بقيّة

بصت لي باستغراب وقالت:
- أنتَ سمعت ماما بتقولك "يا رب يوجعك" بدل من "يا رب تكون بخير" ؟
قلت لها:
- آه.. مش فاهم إزاي ؟
سكتت شوية تفكر، بعدها قربت مني على الكنبة وحطت دراعها في دراعي وقالت:
- إذا كنت عملت كده، أومال لما تبقى حبيبي هتعمل إيه؟
رديت:
- أبداً، ما تتوقعيش ده يحصل تاني !، أنا واحد مجنون.

الثلاثاء، يونيو ١٥، ٢٠١٠

حلم

وصلت إليها في المساء.
لم أجد صعوبة في العثور عليها بين زملائها. وجدتها تقف بينهم، عندما اقتربت منها، كانت مهتاجة وتعاني من غضبٍ بسبب شئ ما، لعنت حظي السئ، لكنني أظهرت لها حضوري ولم أتراجع إلى الخلف، نظرت إليَّ وعاملتني بصلافة شديدة، جاءني أحد أصدقائها والذي كنت أعرفه معرفة سطحية، سلّم عليَّ ووقف إلى جانبي، وقفت هي الأخرى أمامي وقالت بما يعني "أنتَ إيه اللي جابك هنا؟"، حاول صديقها تهدئة الأمر بيننا، فقالت أن عليها الذهاب الآن لأن والدتها تنتظرها عند ناصية الشارع الرئيسي، تركتهما وانطلقت من فوري حانقاً من الحرج خارجاً من المكان كله، كل ما كنت أفكر فيه عندما جئت أنني كنت لا أريد إلا السلام والسؤال عن أحوالها، لكن فيما يبدو لي الآن أنني جئت في أكثر الأوقات خطئاً، أعماني إحساسي بالحرج من الموقف كله، وأكملت طريقي إلى الخارج، سمعتهما يحاولان اللحاق بي، ثم حاذاني كل واحدٍ فيهم من جانب، كان صوتها يلهج بعبارات الأسف والاعتذار، حاولت إفهامها سبب مجيئي، لكننا كنّا قد وصلنا إلى الخارج ورأينا والدتها المنتظرة واقفة بين جموع المشاة فتوقف الحديث، سلمت عليَّ أنا وصديقها سريعاً، لكنها خصتني بنظرةٍ فيها الامتنان لحضوري والتأسف على ما حدث، وقالت أنها سوف تحدثني على الهاتف بمجرد أن تصل بيتها، ثم عرّفت والدتها بي، فقالت "أهلاً وسهلاً يا ابني، حمد الله على السلامة، إزيك عامل إيه؟"، أجبت بسرعة "الحمد لله يا طنط، أنا بخير"، توقف الحديث مدة لحظات، ثم عُدت أقول "شكراً على سؤالك"، أجابتني بصوتٍ حرج "العفو، على إيه؟، يا رب تكون بخير"، ثم انطلقت مصطحبة ابنتها في يدها سريعاً من أمامنا، كان صديقها لا يزال إلى جانبي ينظر إلىَّ في استغراب، أكملنا سيرنا بخطى بطيئة، لمست وجنتي عرضاً بأصابعي فوجدتها رطبة ومبللة بدموعي.

الأربعاء، يونيو ٠٩، ٢٠١٠

.

التقيته مصادفةً أثناء استغفاري بعدما صليت الضحى في الجامع، وجلست في أحد الأركان بين يديه.
رأى الكرب بادياً عليَّ، فاقترب ووضع يديه على ساقيَّ وسألني، "ممّا تشكو؟".
أجبت، "ثقل ما اقترفته وما علمته عن نفسي وأهوائي".
قال، "وأين أمسيت بما حملته؟"
قلت، "قريباً من هاوية تسكنها أشباح منتظرة".
ابتسم مجيباً، "لا عليك، ويعفو عن كثير"، ثم أشار، "اذهب ونمّ في المحراب إلى أن يقوم الآذان".
أطعته مصدقاً، أسندت رأسي وأغمضت جفني، وتمنيت لو أنني أحشر داخله، ظللت أفتحها بين ثانية وأخرى حتى امتدت أمامي الأرض وغبت عنها وغابت.

الرجل الآخر

-استخرج من القطعة التالية-

بالأمس دعتهما إلى العشاء معاً.

اجتمع ثلاثتهم في مطعم فاخر في موعد العشاء وجلست قبالتهما، في البداية تبادلوا الأحاديث الخفيفة عن أحوالهم ثم غلب عليهم الصمت بعد قليل مرةً واحدة. ظلّ الثلاثة يتبادلون النظرات فيما بينهم، لكن تلك النظرات كانت تختلف من واحدٍ إلى الآخر، وعلى الرغم من أنها كانت تلقائية فيما تبديه من حركةٍ وسكون، فهي لم تبد تجاه أياً منهما ميلاً يفوق الأخر، ولم تحملق هائمة في وجه أحداً منهما دون الآخر، ربما إذا مرّ إنساناً غريباً عليهم ورآهم لظنّ أن الأجواء مشحونة بالتوتر بينهم، لكن هذا لم يكن وصفاً دقيقاً على أية حال.

كانت تشعر بالسرور والائتناس بلقاءهما، مع كل ذلك الجو الموائم من الأضواء الخافتة والروائح العطرية، فكرت أن هذه هي أصدق لحظاتها وأكثرها اكتمالاً منذ شهوراً عديدة مليئة بالحيرة وانشغال البال والشعور بالنقصان، وأنها تشعر بالاسترخاء والانسجام في هذا الموعد المتأخر كأنها تستمع إلى موسيقاها الكلاسيكية المفضلة في ساعة رائقة من يومٍ شاق، لم تستطع أن تفكر في أي شئ آخر بعيداً عن تلك السعادة التي غمرتها منذ بداية الموعد.

عندما أتى النادل بأطباق العشاء الرئيسية، شرعت هي في تقطيع شريحة اللحم خاصتها قبلهما مسرعة من جوعها، ألقت نظرة مودة سريعة عليهما بينما كانا يستعدان مثلها للطعام، حاول أحدهما أن يفتح فمه ليقول شيئاً، فرفعت شوكتها محذرة وأصدرت صوتاً انفجارياً قوياً "بَبْ !"، فأغلق فمه بسرعة يائساً وصمت مرة أخرى.

في نهاية الموعد اتفق ثلاثتهم على التلاقي في نفس الموعد من الأسبوع المقبل.

الأحد، يونيو ٠٦، ٢٠١٠

نزيف داخلي/ خارجي

خيط الدماء القاني الرفيع الذي يجري من فتحة شرجي على الأرض ويلوث لباسي وجلبابي، والعرج الثقيل الذي أمشي بهِ في ردهة شقتنا، كان نتيجة اغتصاب عضوي الذكري الأحمق لمؤخرتي أثناء نومي.

الأربعاء، يونيو ٠٢، ٢٠١٠

السبت فات والحد فات

استيقظت مبكراً، ثم عبرتني ماضية إلى دورة المياه بخطواتٍ ثقيلة.
كنت جالساً أمام التلفزيون أستمع إلى "يا أهل المحبّة" لمحمد عبد المطلب بأعينٍ بليدة، عندما خرجت كنت أظنها سوف تعود تجر أقدامها إلى غرفة النوم كعادتها، لكنها جاءتني وجلست فوق فخذيَّ وأراحت جسدها ورأسها فوق صدري وكتفي، لم أبد ردّة فعل، بينما استنشقت هي نفساً عميقاً واحتبسته داخل صدرها، ثم مدت أصابعاً إلى رأسي وداعبت شعري القصير.
توالت إذاعة أغاني عبد المطلب على الشاشة، لم تكن مناسبة تماماً لمزاجي العكر، لكنها كانت ألطف ما يمكن أن يقدمه الصباح لي. رفعت رأسها عن كتفي وتأملت وجهي بنظرة متفحصة لما لم تجد مني قبولاً وسألتني في استغراب، "مالك كده؟"، لم أبعد عيني عن الشاشة، فقط مددت يدي إلى رأسها وأملته إلى كتفي مرّة أخرى.
ظللنا صامتين هكذا حتى أطلقت زفرة حارّة في عنقي شعرت بها كأنها زخات من رصاص.

* العنوان إسم أغنية لمحمد عبد المطلب

الاثنين، مايو ٣١، ٢٠١٠

2

دعوتني إلى التجول معكِ.

كانت سحب الليلة كثيفة، تحتشد كأنها موشكة على الإنفجار والتناثر إلى قطعٍ صغيرة تتساقط في الشريط الضيق من السماء الداكنة فوق قمم الأشجار الممتدة، والأعمدة البرتقالية تبدو لانهائية في تتابعها على جانبي الطريق المفتوح أمامنا.

هل سمعتني وأنا أدندن مترنماً دور "الله يصون دولة حسنك"؟، وهل رأكِ أحد وأنتِ تتقافزين مرحاً أثناء سيرنا بين الفينة والأخرى؟

.. ربما لن أتذكر عن تلك الليلة إلا الهدوء الذي دثّرها.

السبت، مايو ٢٢، ٢٠١٠

1

كنت جالساً على المقهى عندما سمعت نداءك الليلي، لم يكن صوتاً حقيقياً، بل كان أقرب إلى خاطر مرّ في ذهني، كان نداءً صغيراً هامساً. أدرت رأسي يمنةً ويساراً باحثاً عنكِ، فلم أجدك إلى جانبي، نهضت مترنحاً من مقعدي، وهبطت حائراً عن الرصيف إلى نهر الشارع الساكن، سمعت همستك تناديني في عقلي مرة أخرى، تطلعت في الجهات الأربع النائمة حتى تبينتك، كنتِ واقفة في قلب ميدان عند شجرة الصفصاف، جاءني نداءك الثالث أصداءً وكأنما كل الأشياء صارت تردده، شعرت بفمك الصغير وهو يفتر بالنداء الهامس، ابتسمت لكِ وأحسست أنكِ تردين عليها بأخرى مثلها أو أكثر اتساعاً.

الخميس، مايو ٢٠، ٢٠١٠

مُكرر: البشارة

.. وسيأتى من صلبك طفلاً جميلاً يحيلُ ببراءتهُ الكونَ إلى حدائقٍ وجنان ونهر من العسلٍ الذائبِ فى الحليبِ... بين النجباء هو الأطهر.. بين الطاهرين هو الأنجب.. ولذلك هو الأبقى.. منا ومن دهاةِ العالمِ وخبثاءهِ... كلنا زائل –ولو بعد حين-.. ويبقى فى الأرضِ نفسٌ طيبٌ يشهدُ له ولنا من بعدهِ يوم الشهادةِ.. لذا من دونهِ يصبحُ الكل قبض الريحِ.. يعرف من الألوانِ: الأخضر الذى ينيرُ الحكمة فى قرارة عقله.. والأبيض الذى يزينُ بهاء قلبه.. والأزرق الذى يضفىُ على روحه صفاءها.. والأسود الذى يحيده عن طرق الرحمن الرحيم.. تعرفه إذا ما فحصت صدره فوجدت زهرة العشاقِ، وثمرة الجائعين، وأغنية المنشدين، وتكبيرة للهِ همست فى أذنهِ يوم مولده.

الجمعة، مايو ١٤، ٢٠١٠

الإنسان

-إهداء إلى الغائب-

بعد انتهاء المحادثة، أغلق كل شئ ثم أطفئ جهازه ونهض عن مقعده شارداً، متجولاً داخل الشقة المظلمة، بعيداً عن الشاشة التي ظل جالساً أمامها ساعاتٍ طويلة لا يدري كم عددها، وأبطأ في خطوه كي لا يتعثر في أثاث المنزل. وعندما اعترضته مرآة مدخل المنزل، فزع وشك الذعر أوصاله لأنه لم يتبين صورته جيداً، فظن أن ذلك الشخص الذي يتجول ليس هو عينه حقاً.

الثلاثاء، مايو ١١، ٢٠١٠

مُكرر: وهم المرايات : "مدينة الجناين" نايمة !

أمشى معايا شوية لحد آخر الشارع، مانتاش خسران حاجة، يرضيك برضه تسيبنى أمشى وحدى فى الساعة دى؟..
...
من يومين كنت معدى قرب نفس المكان، على الرصيف التانى، فى شارع القصر العينى، على الساعة اتناشر ونصف وخمسة، قول واحدة، كان الشارع سمع هس، وميدان التحرير ما فيهوش صريخ ابن يومين، والريح بتعدى فيه وتصفر صفير ما بيخوفش، وكانت حيطة البنك اللى معدى من جنبه من الرخام، رخام أسمر اللون، فى انكسارات صورة الشارع الفاضى، شفت على الرصيف التانى بنت ماعداش سنها حداشر سنة واقفة كاشفة صدرها وبترضع الماضى، الماضى المجروح بيرضع، يرضع نايم، وجروحه بتتلم وكأنها ما كانتش من الأصل، وفجأة من كل الشوارع خرجت ناس كتيرة، من "المبتديان" خرجوا، ومن "الشيخ ريحان"، من "المواردى"، من "أفراح الأنجال"، من "مجلس الأمة"، خرجوا لابسين بيجامات كستور ومنامات حرير، وكل واحد فيهم شايل ألواح خشب وشنط كبيرة مليانة، فى الشارع الفاضى كل واحد طلع مسامير وشاكوش، وبدأوا ينجروا الخشب فى هيئة سراير، ومصاطب، فتحوا الشنط وطلعوا منها ملايات ومخدات كبيرة وصغيرة بأكياسها، فرشوها ولما خلصوا، اللى ينام على ضهره، واللى يتمدد على بطنه، واللى يتقلب يمين وشمال، واللى يحط راسه تحت المخدة، واللى يحضنها، واللى يحضن مراته، فى النهاية، الكل نام -حتى عسكرى الحراسة جوه كشكه- بانتظام الأنفاس والشخير فى شارع القصر العينى تحت دش النور البرتقانى اللى نازل من العواميد.

الأحد، مايو ٠٩، ٢٠١٠

من الموت

كنت بأتمشى على كورنيش الشاطبي ولاقيته. مكان قديم من قزاز. قايم على البحر. كإنه كان كازينو قديم واتقفل، حديده مصدي، خشبه مسوس، وحروفه إسمه متاكلة. فضلت واقف كتير قدامه من غير معنى بأبص له ويبص لي..
دفعت للحارس النايم على الباب ودخلت، ما كانش فيه حسّ إلا صوت البحر المكتوم، وريحة التراب
والطحلب الأخضر اللي مالية المكان، لفيت بالراحة ومسحت بإيدي على كل عواميده وقزازه، صوابعي حست كل شئ من عجزه بيئن. قدام البحر، ساكت سرحان وبأفكر..
الشمس طلعت شاحبة وبطيئة،
بتتسحب ورا السحاب الماشي، بدأت بخيط أبيض متكسر، الأزرق الممدود قدامي اتفرد سلاسل دهب، عيني تاهت زي مركب تاهية، وحسيت في اللي بأشوفه بزغلله. دوّرت نفسي حواليَّ، الأرض مفروشة نور، وأصوات المصّيفين على الشطوط جاية لي رايقة، كل شئ في هدوءه انسيابي وبسيط.. حتى الموت، هيكون مريح ولو بان لك لحظتها عنيف.
حسيت بجمال الجملة في بالي وحبيت أقولها بطريقة تانية بصوت عالي، ابتسمت ابتسامة خفيفة وقلت "أنا عارف إني لو..."

كانت هناك إيد ممدودة في ضهري بمسدس. بتكة طلقة رصاص. طاخ.

ساعتها أدان الضهر ادن والناس كانت بتتمشى على الشط زي عادتها.

الجمعة، أبريل ١٦، ٢٠١٠

عين على الطاولة

كان الضوء الأبيض يسقط على الموجودات، بينما كانت الظلمة تحيط بمركز الحدث. هو.. كان يلهث في غضبه، تدافعت صور عشوائية أمام ناظريه وكلمات حمقاء في فمه، لكنه ظلّ صامتاً محدقاً في سطح الطاولة، أمّا هي فكانت حائرة ولم تدر ما العمل في ثورته هذه؟، وضعت يداً مترددة فوق يده الموضوعة على الطاولة، لم تلحظ ارتفاع صدره باللهاث المتزايد، جذبت يده إليها بين راحتيها ثم قالت برفق:
- إيه ؟، بالراحة على نفسك، عايز تقول إيه؟
رفع عينيه المشتعلتين بسورة الغضب، وجذب يده بعنف من بين يديها هاتفاً:
- إيه اللي بتعمليه ده !؟، شيلي إيدك..
أزاح الطاولة من أمامه ثم نهض وغادر المكان كله، ظلّت تنظر في دهشةٍ إلى كرسيه الشاغر، ثم أشاحت بوجهها بعيداً، فكرت أنه سوف يندم لاحقاً عندما يعيد التفكير فيما حدث الآن، وربما لا ؟، استطاعت تبدد دمعة بغلق عينيها قبل أن تنزلق فوق وجنتها، ثم نهضت وتركت المكان كله مثلما فعل، بينما بقى الطاولة والكرسيان
منتظرين في موضعهم حتى حلّ إظلام المشهد العنيف عليهم.

الجمعة، أبريل ٠٢، ٢٠١٠

نهار مضروب

دخلت من مكتب مأمور النقطة على مكتب الأمين اللي كان بيخلص ورقي، كان لابس راس الإله آنوبيس أو الإله تحوت، معرفتش أفتكر وقتها بالظبط، بس فكرت أرفع له إيدي وأقسم له "أنا لم ألوث ماء النيل"، من غير ما يبص عليّ قالي من جوه الراس المقفول، "ما تبقاش تصطاد هناك تاني بدقنك دي عشان دي فيها حبس"، بصيت له واترسمت على وشي ابتسامة استهزاء خفيفة، رمى لي بطاقتي على طرف المكتب وارتاح على الكرسي ومدّ نفسه عليه، وأنا خارج من نقطة البرج اتحسرت على السنارة وكيس الطعم اللي اشتريته من الميدان ليلة إمبارح واتنهدت، اتمشيت لحد المحطة، كنت عشان أهدى من البهدلة اللي حصلت لي على ريق الصبحيّة، قعدت أدعي لجدي بالرحمة، لما وصلت المحطة طلعت أول عربية التلفريك لاقيتها في وشي، رغم إن العربية كان أغلبها فاضي، رحت قعدت جنب واحدة ست في الأربعينات، كانت اليافطة العريضة اللي جنب شباكي منقوش عليها "محطة برج الجزيرة"، استنينا لحد ما طلع السواق قطع لنا التذاكر، وقعد على كرسيه وسحب دراع العربية، فضلت العربية تزمجر وتزيّق لحد ما طلعت، لما بقينا فوق النيل، خبطت على كتف اللي قدامي وسألته:
- هو بيروح على فين ؟
لما بصّ لي شفت عينيه سوده بسّ حواليها حلقة زرقا كأنها عتبة بتفصل بين السواد والبياض، رد عليّ:
- بيخلص في روض الفرج
هزيت راسي، وسألته تاني عشان أبص في عينيه:
- وهي الساعة كام دلوقتي ؟
- الساعة حداشر ونص وخمسة
الست اللي جنبي فتحت شنطتها وطلعت إبرتين تريكو وبكرة خيط وقاعد تشتغل وتنشغل فيها، بصيت من الشباك، لاقيت فردين حمام بيض بيتسابقوا جنب العربية الطايرة، ما كنتش طايق أتفرج على النيل ولا أبص من خنقتي منه رغم الشمس الطالعة اللي سطعت عليه، مديت إيدي في إيد الست وأخدت منها الإبرتين والكوفيه، وقعدت أشتغل فيه بدالها لحد آخر السكة.

الخميس، مارس ٢٥، ٢٠١٠

دكّة في محطة

الحياة لما تقعد في أوضة، كل الأوض بحيطان، كل الحيطان بتخنق، بتعمي، بتخرس،
البيت رغم الشتا كله حبال مشانق متعلقة، بخار ميّة يطفي العيون ويعصر الرقاب،
سابت الكنب الحزين الناعم،
وخرجت بره بيتها طيف من نور، وتلاقي مسلكها لحد آخر الشارع.
..
هسْ هسْ .. اسمع
الجو هيرقص، ويطبّل، ويصفّر، شكشكة الخوف وعضة البرد في شارع وحلة، والليل كحلة، بتظن لأول وهلة إنه ده بيتها، كان حلمها الصغير إنها تنام على أرض الشارع رافعة راسها، وشها في وش الليل، ونجومه في عيونها بتبرّق، بتغمز، بتغمّض، واللُمض ألف نجمة منوّرين في الضباب الحيّ، تفتح إيديها في وشهم وتفقلها وكأنها بتملك كل شئ فيهم، وتشوط الحصى برجليها، فيجري بعيد، ويفضل يجري من غير نهاية.
عند آخر الشارع عدوا السهرانين متكلفتين في كوفياتهم وبلاطيهم، بيمدوا ويختفوا في الضلمة، إلا الكنّاسين بيتمرجوا بمقشاتهم خطوة قدام، وخطوة ورا في حركة رقص.
إسم محطة المترو بارز بحروف كبيرة، ومقلة نص الليل فاتحة أنوارها تكشف ساحة الشارع، والمحمصة تدور بنارها تسّوي السوداني والحمص، جت ريحة سخنة في خياشيمها فتحت نفسها، اشترت لروحها قرطاسين، مشيت بيهم ودخلت المحطة.
قعدت على الدكة الأخيرة وفضلت مستنيّة أول قطر.

الأربعاء، مارس ٢٤، ٢٠١٠

.. الجولة الثانية

... كنت أراقبها جيداً من أعلى المدرج في منتصف المحاضرة، لم تكن تحادث أحداً، وكان يبدو عليها الشعور بالملل، في لحظة ما رفعت رأسها متطلعة كأنها تشم أو تسمع شيئاً بعيداً، ظلت تدير رأسها يمنةً ويساراً، ثم قامت من مجلسها وصعدت فوق المقعد - نظراً لقصر قامتها بين زملائنا- بين الطلبة والأستاذ الجامعي، ومدت ذراعها جانبها وأخدت تهز يديها وقالت:
- هش هش هش هش هش هششششششششششش
ظلت تفعل ذلك حتى سكت الأستاذ وسكتت الثرثرة المنتشرة في المدرج تدريجياً، تطلع الجميع إليها مندهشين من فعلها الغريب والوقح، كانت هناك ثلاث فتيات يثرثرن معاً جانباً، فهتفت فيهن:
- بس !
فسكتن.
فتح الأستاذ فمه معترضاً:
- إيه ؟ أأ...
- الله !
ثم استدارت إليَّ وأشارت بسبابتها وإبهامها وزأرت قائلة:
- أنتَ، عايز تقول حاجة ؟
أخذتني المفاجأة، وأشرت إلي نفسي متعجباً، هززت رأسي نافياً وأجبت مستنكراً:
- مين؟ أنا؟.. لأه!.. أبداً!.. إزاي؟ أقول إيه يعني؟
ضيقت عينيها ريبةً ثم ابتسمت ابتسامة ذات مغزى فبادلتها الابتسام الماكر.

أعمل واحد عبيط

ذات نهار، ذهبت إلى محاضرتي مبكراً على غير العادة، لم أجد أحداً قد وصل بعد، حجزت لنفسي مكاناً في أول مقعد واضعاً حقيبة ظهري في المكان الذي اختره، ثم تركت المدرج الفارغ وخرجت للتسكع قليلاً حتى ميعاد المحاضرة.
عندما عدت إلى المدرج وجدت المدرج ممتلئاً بالطلاب، حمدت الله على نصاحتي لأنني حجزت لنفسي مكاناً في المقدمة، لكنني فوجئت بزميلتي زينب تجلس في نفس المكان الذي اختره لنفسي في المقعد، وقد امتلئ المقعد إلى آخره ولم يبق موضعاً إضافياً، ووجدت حقيبتي فوجدتها ملقاة على الأرض مهملة أمام المقعد الأول.
ينبغي لي أن أقول أن مثل هذه الحركات السخيفة معتادة بين الطلبة في الجامعة. أما زينب هذه فهي فتاة قمحية قصيرة، بالنسبة إليَّ بالطبع، شعرها بني اللون ناعم، ذات وجه مستدير وأنف صغير وشفتان رفيعتان، وتحمل في عينيها الكثير من الصلف والكبر واللامبالاة.
كنّا نتبادل المشاعر السلبية بيننا، وقد تعودت على أفعالها الاستفزازية أثناء اصطدامنا اليومي ببعضنا، حملت حقيبة ظهري من فوق الأرض صامتاً وأنا أوجه لها نظرات الحنق، سألتني "إيه؟، اتضايقت؟" بلهجة من يريد شجاراً، في نصف ثانية قرأت فوق شفتيها إجابة "اتفلق" إذا ما قلت لها "أيوه، اتضايقت"، عبرتها بينما كنت أجيب بلامبالاة صادقة "لا، عادي".. وصعدت المدرج راجعاً إلى آخر مقعد فيه.

الثلاثاء، مارس ٢٣، ٢٠١٠

ملك الترسو

دخل البطل في الفيلم المعروض في السينما الترسو يطيح يمين وشمال، فوقه وتحته، اتلموا عليه من كل حتة، مسكوه وقيدوه في الكرسي بالحبال الخيش، حاول يفك نفسه مرّة، واتنين، وتلاتة، فضل كتير بيحاول، الجمهور القاعد قام في القاعة الضلمة، وصفّر، وزعق، وابتدى يخرج..
البطل المتكتف طلب نجدة اللي فاضل من الجمهور، اتحرك الجدعان منهم ونطوا جوّه المشهد، ضربوا الأشرار، وفكوا البطل من على الكرسي وخدوا بإيديه، اتلموا حواليه وسلموا عليه واحد واحد، كلهم في الصالة نزلوا بيضحكوا ويهزروا مع بعض، وخرجوا من باب السينما.
وقف البطل قدام السينما متاخد من منظر الشارع الزحمة، الناس والعربيات والعيال السريحة، أنوار المحلات الفاتحة في عينيه وزعق الزحام الطارش في ودانه، خد خطوة على قدام، جاله موظف قطع التذاكر من الشباك وقاله، "أنت إيه اللي خرّجك من جوّه !"، بقى متسمر مذهول في مكانه والناس واقفة وراه، عدى أتوبيس الهيئة في وشه وزمّر، رجع خطوة لورا، خبطه صبي سريّح بملاية مليانة هدوم على ضهره بيجري بيها من البلدية، شاف عساكر بتنط من على ضهر عربية نقل بتجري وراهم، خد له خطوتين كسكسه، بص له موظف قطع التذاكر من ورا القزاز وضرب كف بكف متعجب، "أنا مش عارف إيه اللي طلعه من الفيلم ؟"، ساب البطل جمهوره اللي كان وقف معاه ودخل، عدى بين كراسي الصالة الفاضية، وطلع المشهد وقعد على الكرسي، حاول أكتر من مرّة يربط الحبل على جسمه تاني ومعرفش !!

السبت، مارس ٠٦، ٢٠١٠

إبن الإنسان

تروي أمي هذه القصة:
ذات مساء، صعدت أمي الميني باص المتجه من محطة بولاق الدكرور إلى محطة ميدان الفلكي – باب اللوق، كانت تحملني بين ذراعيها، وقتها لم يتجاوز سني عامٌ كاملٌ، وكان الميني باص ممتلئاً، فظلت واقفة حاملة إياي طوال الطريق، حتى عرض عليها رجل بلدي يرتدي جلباباً وعمامة جالس بجانبها في الردهة أن يحملني عنها، ترددت قليلاً ثم وافقت، ظلّ الرجل يداعبني إلي أن ابتسمت في وجهه، سعد بذلك كثيراً وأخرج من طيات ملابسه ربع جنيه ثم دسّه في ملابسي..

...

كلما تذكرت هذه القصة تخيلت نفسي رضيعاً محمولاً في شارع السادس وعشرين من يوليو ببولاق ليلاً بين ذراعي أحد الناس بينما تلتف جماهير النساء والرجال والأطفال والشيوخ حولي، ويمتد أمامي وخلفي طابوراً عريضاً منهم بانتظار مشاهدة طلعتي البهيّة !

خالد

(1)
يدخل شارع القهوة متمهلاً يتبعه كلب أسود أجرب، يسحب كرسياً ويجلس وحيداً ويطلب الشاى ويتجاهل المعارف الجالسين ببرود كما يتجاهلونه، والكلب يقعى تحت قدميه وينام، يمر عليه فلان ويجلس مثرثراً دون رد، وعلان يمر ويلقى السلام ماداً خطواته من أمامه رهبةً، وهو على كل من هذا وذاك، يسمع ويهز رأسه ويتأمل وجه السماء، يشرب شايّه وينهض صامتاً هو والكلب دون ربع كلمة.

(2)
وفى ليلة لا تختلف عن باقي الليالي، كان جالساً وسط جماعته على المقهى نائماً وشخيره الرتيب يزيد الليلة ضجراً، لكن الجالسين كلهم كانوا يتكلمون ويثرثرون من غير حرج !!، فجأة !، أفاق من نومه بلا سبب، رفع رأسه وهزّه يميناً ويساراً ثم مضمض فمه بالماء وبصقه أسفله، ثم انتظر إلى أن سادهم الصمت، وبمجرد أن انتهى منها، خفض رأسه على صدره صامتاً ولم تمر ثلاث دقائق وراح شخيره يملأ الكون.

(3)
المرئيات مهتزة كعادتها لحظة الإستيقاظ، أبعد الغطاء الرمادي عن جسده بحركة واهنة من قدمه، ثم نهض معتدلاً مستنداً على ذراعه فى إصرار بطئ، تحسس ملابسه التي لم يغيّرها منذ أيام بحثاً عن موبايله، أراد إرسال رسالة "كلمني.. شكراً" المجانية لصديقه الطبيب الذي يطارد أبيات الشعر فى جنبات وأركان عنابر المرضى بالقصر العيني، دسّ أصابعه فى جيب الجينز الضيّق ولم يجده، وتكاسل عن البحث عنه فى أي مكان آخر حوله، لكنه أخرج عدّة أوراق نقديّة ضئيلة لا تكفى إلا لمواصلات اليوم الموعود وثمن وجبة إفطار واحدة تمنحه القدرة على التحرك المتزّن، حاول أن يتذكر أيّة تفاصيل غير التي حفظها عن ذلك اليوم لكنه لم يستطع، كل ما يعرفه أنه بعد ثلاثة أيام سوف تقبض يده أوراق نقديّة أكبر من تلك التي فى جيبه، فشل في تحديد الوقت بالنظر إلى الضوء المتسرّب من النافذة، لم يعرف إن كان الضوء ربانياً أم كهربائياً، خمّن أنه العصرّ الآن، الأصوات الصاعدة من حركة الشارع أسفل البيت بددت شعوره بالوحدة والخوف، حلّ حزامه من حول خصره ثم رفع بنطاله المتسخ إلى أعلى وأحكم إغلاق الحزام هذه المرة ضاغطاً بشدة على بطنه الخاوية منذ صباح الأمس، لا يفكر إلا بشيطان الجوع الذي يزحف متسللاً على جسده النحيف الهزيل، وهو يزحف هارباً منه بنوم إجباري ملئ بالأحلام عن الركض مع نخل يجري فوق صفحة جدول نيلي صغير، وكان كلّما شعر بفراغ معدته قبل النوم حلم بالركض بجانب الجداول النيلية، ذكره الماء بعطشه الذي يجزّ عنقه بسكين ناري، وفكر أنه لو استطاع القيام ليشرب فلسوف يبحث عن موبايله المفقود، خرج رنين الموبايل من مكان ما خفي قريب، فصار يلقي بالأشياء في هوس بعيداً بحثاً عنه، ضغط زرّ التحدث دون أن يرى اسم المتكلم، وفي نهاية المحادثة ألقى بالموبايل بعيداً في يأس من احتمالات تغيّر حظه اليوم، حتى إنه نسى إرسال الرسالة المجانية إلى صديقه الطبيب كي يخرجه من الغرفة الليلة، تقلّب على جنبه عائداً إلى النوم، وهو يشد الغطاء الميري الثقيل إلى جسده، أصدرت أمعائه أثناء تحركه أصوات مكتومة، ابتسم رغماً عنه، فقد اعتقد أن عصافير بطنه قد ماتت جوعاً منذ فجر اليوم، لكن جوقة العصافير تلك أثبتت أنها لا زالت حيةً تصرخ من وقت لآخر مثله.

(4)
كنا نسافر سوياً
من ليل قبلي إلى ليل بحري
عابرين زحام القاهرة
وكان يتمنى في قرارة عقله الإسفنجي
لو طار الأتوبيس..
وارتطمت ألواحه النحاسية
بجدران الخرس الخرسانية
فيمزق بشق أبيض نهاري
لوحة السماء المظلمّة

(5)
ضباب رقيق يغشي فضاء الشارع، وبناياته تتوارى تدريجياً وتتحول إلى أجسام هائلة كائنة بلا أيّة تفاصيل، وأسفلت الشارع الأسود يبدو فى لمعانه كالمرآه بعد يوم مطير، تتشكل برك موحلة صغيرة على سطحه المتعرج، ثرثرة فارغة وجدل بلا معنى وضحكات ميتة تخرس بقوة البرودة الشتوية، وتبقى رائحة السِكر في الأنفاس المتجمدة، صقيع زاحف مقابل دفء منحسر، فقد الرفاق مقدرتهم على تحديد الإتجاهات بمجرد أن خرجوا من المقهى، فظلوا واقفين في مكانهم حائرين، تضاعفت طبقات الضباب حتى ملأت المكان، أحسّ بوٍحدته فجأة، انفصل عنه رفاقه وضاعوا دون وداع، سار بضعة خطوات مترددة، ارتقت مشاعر الخوف إلى عقله، خطر له أن يجري حتي يخرج إلى شارع أوسع أو ميدان أرحب، لكنه توقف ولزم مكانه، فقد تكاثف الضباب فى الهواء حتى انعدمت الرؤية.

(..خاتمة..)
ويقوله: يا ليل اسكت شوية عايز أكتب.. والليل مابيسكتش
يقوله: يا ليل اخرس.. والليل ما بيخرسش
وقالك إنه طلع مطوته وفتحها فى حركة استعراضية وشق بيها بطن الليل
فضل باصص له في السما شوية.. وبعدها كمّل كتابة على الورق..

الأحد، فبراير ٢٨، ٢٠١٠

مُكرر: صفحة من اليوميات : يوم مع نعيمة عاكف..

... تاني يوم ، كان أجازة، خدنا بعضنا ونزلنا نتمشى في شارع مراد ، نسايم الصباحيّة روقت كل اللي كان بينّا، نعيمة كانت بتمرجح إيديها وتفرد دراعاتها في الهوا من إنبساط روحها، وتلّف دراعيها حوالين كتافي وتحضني من جنبي بشوقها المكبوت، حاولت إني أكون متزن ووقور في مشيتي معاها عشان الناس ما تبصّلناش قوي، بسّ من جوه ما كنتش قادر أطيق إننا نرجع للبيت ونقفل بابنا علينا، أسبوع والشقة مكتومة وضلمة والتراب مغطيها، الشوارع كانت غريبة كأنها صبح العيد، زحمة .. بسّ زحمتها هجران، شوية وحسيت إن نعيمة ما عادتش جنبي
وقفنا تحت صفصافة مفرّعة زي الشماسى وقعدنا على الرصيف العريض ومدينا رجلينا في نهر الشارع، ريحت راسي لفوق وشفت الشمس نازلة من بين الورق والغصون بتسمح على شعرها وتطبب على ضهرى، ما لحقتش أغمض عيني وأتمنى إن أصحى الصبح ألاقي نفسي شجر على النيل، إلا إنها قامت فجأة تعدل همومها .. وخدت خطوتين بعاد وقالت لي "يالا"، لكني فضلت قاعد أبص على مشيتها، الدلع المتداري في عقصة كعوبها مهما حاولت تمشي بإستقامة، الرقص المحسوس في حركتها الهادية، خفة صوابعها لما بتلمس الأرض بعد السرير... قمت وراها وكان في نفسي إني أشيلها على صدري زي النونو
لما حست بالتعب قالت نرجع، مشينا بنجرجر رجلينا على الأرض ساكتين، شمس الضحى بدأت تحمى وتشد حيلها علينا، إحنا ساكنين في شارع السوق، عينيَّ دايماً لازم لها لو رايح أو جاي تصبح وتمسي على الكل، الشاري والبايع، خضري وفكهاني، صبيان ومكرمشين، طوب الأرض، الطوب اللي قوم العمارات قديم وجديد، الوحل اللي عمره ما ينزاح من وش الأسفلت، كأني لسه ساكن جديد إمبارح، حطت إيديها في دراعي فجأة بعد ما كانت سرحانة طول ما إحنا راجعين، وسألتني "هو أنت ليه بطلت تكتب ؟ "، حاولت أفضل ساكت، قلت "ما بقاليش نِفس أكتب"، رجعت تسأل تاني بخباثة "مالكش نفس ولا مش عارف ؟"، قررت إني ما ردش عليها ، "يعني سكت !!"، "مش عايز أرد، هو بالعافية ؟!؟"، سكتت وشالت إيدها من دراعي بعد شوية
لما طلعنا البيت، كنا مهمودين، هي اترمت على الكرسي، وانا وقفت في نص الصالة محتاس، حتى ما كانش لينا نفس نحضّر الفطار، قلت لنفسي مش لازم اليوم الأجازة يبوظ، وأنا بأقفل القزاز على الشيش، شفت صورتها اللى معلقها وهي واقفة على ضهر الجمل فاردة دراعيها ووراها الهرم الكبير، قلت وأنا لسه بأبص في الصورة "أنتي عارفة أنا بأحب الصورة دي قد إيه ؟"، حطت وشها بعيد وقالت "آه .. كان زمان"، النور الداخل من الشيش عدي في صورة وحلاّها أكتر وأكتر
هي استغربت قوي لما ركعت على ركبي ونزلت تحت السرير، شديت كرتونة صغيرة وفتحتها وأخدت منها ورقة ومديتها ليها، أخدتها وقعدت تقراها بصوت عالي، اتوترت في مكاني وما بقيتش عارف أروح فين من صوتها، ولما خلصت رجعتها وهي بتقولي "حلوة .. عجبتنى"، دسيتها في قلب الكرتونة، زقيتها تحت السرير تاني بسرعة، سألتني "دي آخر حاجة كتبتها ؟"، قلت لها "تحبي تلعبي كوتشينة ؟"، لعبنا دورين وخسرتهم، ما كنتش عارف إذا كنت خسرتهم بمزاجي ولا هي اللى كسبتني، رفعتها على السرير في حموة الدورين ونمنا مع بعض مرتين، الأولى بركت فوقيها، حطت عينها في عيني بتحدي، بعدها رحنا في تقييلة الضهرية براحة من غير ما ناخد بالنا
لما صحينا كان كل حاجة ارتاحت وهديت، ريحة العصارى منتشرة في الأوضة، الشاي واللمون والنعناع وبرغل الحَمَام، قلت لها هأطلع أشقر على الحَمَام ووافقتني، بس اشتطرت قبل الطلوع إني أحكي لها حكايتي مع رباية الحَمَام، قلت لها إن الحكاية دي سمعتها ميت مرة وأنا حكيتها لها مليون مرة بألف طريقة، لكنها أصرّت، قلت لها إن البنت اللى شاغلتني في الجامعة هي علمتني حبّ الطير، كانت كل يوم الصبح قبل معاد المحاضرات أجي أنا وهي ونقف قدام بوابة جنينة الحيوانات ونستنى، ما كنتش عارف هي مستنية مين ولا هي عارفة أنا مستني مين، نفضل نبص فى الساعة ووشوش الشجر والناس لحد ما ييجي معاد المحاضرات ونمشي من غير ما حد ييجي ياخدني أو ياخدها، اتعرّفنا ودردشنا وضحكنا كتير، بسّ عدت سنين قبل ما نفهم إن المعاد كان بينّا إحنا الاتنين..
طلقت الحَمَام طاير في حلقاته وبراية كبيرة في إيدي مرجحتها يمين وشمال، وسرحت في حاجات كتير، في بطن باطها الطري لما بتسيبني أمرمغ راسي ووشي فيه، في ريحة الهدوم والملايات بعد النوم، في طعم فنجان القهوة اللى بتسقيهاني بإيديها أيام ما بتيجي، تهنين أوجاعي في صدرها، حاجات لما ترفرف في الذاكرة أتمنى لو أفضل قاعد في كنفها ما أتحركش بعيد، خوفي تروح منى وتسيبني، قلقى لما أكتب ما يعجبهاشي، لما أضحكها بنكتة تجيي من بُقى بايخة ورزيلة، خوفى أصبح وأملس مكانها على السرير ما لاقيهاش أبداً، عارف مش هيكون ليها قلب تقولي "مع السلامة" و"خلي بالك من نفسك من بعدي"، من بعدها بياض يخوّف ويقشعر بدني، في ظلها الوردي والخمري يعيش ويتنفس وما يموتشي
اللى فاتونى دايماً ما عرفتش ليه فاتونى ولا إمتى ؟، زي أطياف الأحلام الغريبة عدوا، زعلت لما حاولت أنساهم وزعلت أكتر لما الدنيا علمتني نسيانهم، فين الغلط ؟، كان منى ؟، طب إزاي ؟، اتشعلقت زي العيال في ديولهم ومشيت في حبّاهم، راحوا وفاتوني من غير ما ياخدوا السؤال، ومن غير ما يسيبوا الجواب، وفضلت طول الوقت حاير فيَّ وفيهم
رميت نظرة لتحت في شارعنا، لاقيت نعيمة خارجة مرّوحة من راسه وتختفى في لخبطة الناس بالعربيات، كانت هأناديها وحسيت حسي اتخنق بشلقة حجر في الزور، حاولت أستعيد كل تفصيلة حصلت في اليوم تفرّح قلبي وتخرجه من أحزانه، مديت عيوني لقدام ولاقاني النيل في عيوني، كان الليل بدأ يتسحّب من بعيد على ضهر السحاب، غبت في المشهد ساكت، وشفت المراكب الكبيرة والصغيرة عايمة وحدانية في المرواح والمجي بتنوّر زي مقامات الأوليا في الموالد على وش النيل

الأربعاء، فبراير ٢٤، ٢٠١٠

لنتحدث قليلاً عن هذا الظلام

Cynophobia: is the abnormal and irrational fear of dogs
قاعد على الأرض ومش قادر أقوم، الأوضة بتوسع وتضيق على كيف كيفها، لطشات النور من الشارع بتجري على الحيطان، وتعدي من بين الأشياش ترسم سطور زي سطور الكشاكيل والكراسات، أقرا عليها حدوتة قبل النوم..
كان مرّة فيه أميرة ركبت حصان أبيض وخرجت تدور على فارسها، بس الفارس كان خرج من الحدوتة كلها، ودخل جوّه حواديت تانية بيدور فيها على حصانه اللى ركبته الأميرة، آخرة المتمة الفارس تاه ونسي الحصان والأميرة والحدوتة الأصلية..
أنا عايز أروح لستي في الشرابيّة، أنا عايز أتفرّج على فيلم السهرة عند الفكهاني اللي قدام البيت، أنا عايز أنزل الحوش أشوف فقرة الساحر أوز والأراجوز، أنا عايز… الكلاب ! الكلاب السودة بتنبح ! هَو هَو. أنا مش بأخاف من الكلاب. لأه. الكلاب طيّبة، حنونة، زيها زي باقي الحيوانات اللى بتمشي على الأرض. الحقيقة. الكلاب هي اللي بتخاف مني. هَو هَو. الإنكار مفيد، الإنكار بيساعد أحياناً .. وأحياناً لأه. خليني أتخيّل إنه بيساعد، لأني جرّبت كل حاجة وتعبت. هَو هَو. الفارس ! الفارس خرج من كل الحواديت بعد ما خلّصها وأبطالها قالوا له "توتة توتة خلصت الحدوتة"، بس ما عرفش يرجع للحدوتة بتاعته، ولما عرف يرجع يا حسرة ما لاقش لا الأميرة ولا الحصان بس لاقى كلاب كتير مخيفة ! هَو هَو.
الكلاب بتشمشم عقب الباب. أنا مش هأصّرخ وأقول يامّه. أنا هأستنى النهار يطلع.. أيوه أنا أحسن حاجة هأعملها دلوقتي إني أنام. هأحاول أنام. الكلاب ! الكلاب برّه هتقطع مصاريني والنهار لسه بعيد.. خليني قاعد على الأرض. يا ماااااماااااا.. يا ماااااامااااااا هويداااااا.. يا ماااامااااا..
من الشباك.. هَو هَو.. للبلكونة.. هَو هَو.. لبير السلم.. هَو هَو.. النور مقطوع.. هَو هَو..

الأحد، فبراير ٢١، ٢٠١٠

من قصاقيص الأقاصيص

كانت بنت مجنونة مجنونة، في روحها كلام كتير مش بتقوله لروحها، يوم ما كانت زهقانة من وحدة أسرارها على السرير، عايزة تنام ومش عارفة تنام، فتحت الدرج وطلعت مقص، وجابت شنطتها وطلعت دفتر تليفوناتها، وفي كل صفحة قعدت تقصقص الأسماء، حسن، زينب، فتحيّة، عائشة، هدى، نعيم… لحد ما الدفتر خلص.
نفخت صدرها من الملل، طارت كل الأقصاقيص جوّ الأوضة، ونزلت منتورة في كل مكان زي ميّة المطرة، زي زينة يوم عيد الميلاد، طفت البنت الأباجورة، وفرشت غطاها عليها، لكن نفسها اللي طيّر الورق اتعلق فيه، اتلخبطت الأسماء، كلها فيها روحانيّة من نفسها.
اتخانقوا واتعابوا، اتخاصموا واتصالحوا، عيّطوا وضحكوا، وفضلوا يتكلموا ويرغوا، والبنت اللي كان كلامها مش بتقوله لروحها ما عرفتش تنام من كتر ما اتقال ليلتها !

الاثنين، يناير ١٨، ٢٠١٠

دكّة في جنينة

عريان الشجر عريان، طريق مرصوف الريح بتتنفس فيه وتكنس بنفسها الورق الأصفر، والشمس فوقيهم حلقات حلقات.
دكّة في جنينة، تقعد عليها بنت حزينة حزينة في نهار شتوي فاضي، تبص يمين، تبص شمال، وتحضن شنطتها، تغالب نفسها بالبسمة والتنهيد، وفي بالها أغنية عيال. السما بدأت تنّدع، تعدّ النقط النازلة، نقطة، اتنين، تلاتة، نقطة على كتفها، نقطة على شعرها، نقطة على فخدها، كأن كل نقطة لما بتقع بتدوس علي حتّة منها .. غمضت عينيها التعبانين وتاهت في العدّ.
غام الضباب بلونه الرمادي حواليها، قلبها انقبض، قبضت على إيد شطنتها، واتهيئ لها إنها شافت ورا الغيم بنت عريانة، وسطها نحيل لكين راسها كبيرة، وعينيها واسعين، بتبص لها، أكيد بتبص لها، ماسكة في إيدها ولد أسمراني، تجري وتطير قطط وعصافير كبيرة مبحلقين عينيهم فيها مطرح ما تروح، دوّرت عينيها في الجنينة، عريان الشجر عريان، بس النجيلة زهرّت زهور خيالية كبيرة، متشبّكة، مليانة شوك.
البنت فكرتها بكوابيسها الجديدة، كانت تدخل تنام لابسة كل دولابها، وتتغطى بكل الألحفة والبطانيات، وكل ليلة وليلة بتحلم إنها ماشية عريانة من هدومها في الشارع، البرد !.. مش بردانة، الستر؟.. ماهياش مستورة، وإن كان محدش شايفها، ما كانتش حاسّة إنها مبسوطة.
شويّة وظهر لها، مهرة بخيّالها، كانت بتشبّ بحماس كأنها بتتعلق في بخار الميّه الطاير من أنفاسها، قربّت منها، وعندها شدّ الخيّال اللجام، كان مبرّق بعينين فيهم الدهشة، أو الخوف، يمكن الرغبة؟، من صدره العريض مدّ لها إيد واثقة، انكمشت في جنب دكتها، هزّت المهرة براسها مرتين، شافت في رقبتها وحمة، وحمة على شكل وردة، فضلت كامشة في الدكّة والخيّال واقف لها بالمهرة وباسط إيديه، حسّت بإصراره، ركب عنادها الخوف، زادها العناد عناد، اتنحنحت مرة بعد مرة، ابتسمت لما جت في بالها أغنية "ما انتاش خيّالي يا ولا/ ما انتاش على بالي والنبي"، بعدت وشها عنهم شويّة، ورجعت ثبتت عينيها فيه، قفل عينيه المبرّقين عنها، لملم إيده وقفلها على لجّام المهرة وشده بعيد، لفّ بالمهرة حوالين الدكّة، واختفى ورا الشجر واختفت كل حاجة معاه.
الشمس بتحاول، رغم إن يومها قصيّر، النور خلّى الضباب يسقط على النجيلة ويغطيه بلونه الباهت، كان صدى كل شئ حواليها بيبعد ويطير، فكرت مش هتمشي لوحدها أبداً، اتعجبت من الفكرة قبل ما تقوم وتفرد هدومها وشنطتها وتشوف سكّتها، أبداً مفيش طريق مختصر ولا معاد قريب للمكان والوقت اللي يستحقها، موسم طويل .. بعده موسم طويل وممشى طويل.. بعده ممشى طويل..

الأحد، يناير ١٠، ٢٠١٠

الأيام بضهرها

يوم التلات:
صاحى على سريري قاعد وضهري محني، الزعل طافي على روحي زي خشبة على الميّه، نكست راسي وطلقت تنهيدة، مش فاكر أي شئ من إمبارح غير الألم اللي نمت بيه ونام بيّ، احترت في إيدي ورجليَّ، حاسس كأني عروسة قطعوا خيوطها واتسابت مرميّة، خيال النور بيتلاعب من بين الأشياش على سقفي، قلت في روحي، إحتمال يكون النهار ده جميل بس أنا أعجز من إني ألحق جماله.
اتكعبلت مرتين وأنا نازل من على السرير، وسقطت على الأرض، لولاش كانت الأرض باردة، ما كنتش رضيت أقوم منها. اليوم أنا لوحدي في البيت، فتحت التلفزيون، حسيت بوشّ في وداني، ولا كنت فاهم كلمة، كأنه كلام تاني غريب عليّ.. فكرت أطفيه، ولكن سبته واطي يعمل حسّ في الحيطان الخرسا، النهار برّه عايرني بجماله وضحكه ولعبه بين النور والضلّة، والشمس ندهت على إسمي ميت مرّة، وأنا مش سامع إلا صوت نهنهه جوّه، جاي منين ؟، من المطبخ، من الحمام، من أوضتى، فيه صوت حد بيعيط بمرارة ومش قادر يبطل عياطه، نمت على جنبي اليمين على الكنبة، واتكومت في بعضي زي الجنين، فضلت مبلّم في الشباك اللى فاتح صدره على الدنيا وسرحت فيه، رنّ التليفون فجأة، حسيت بزغد في أقدامي، ما اترددتش كتير، سبته يرنّ في دماغي بلا نهاية.

يوم الاتنين:
زي كل اتنين، زرتيني في الحلم، المترو رايح حلوان، والدنيا ليل بره القطر، مطفيّة، مضلّمة، وعربيتنا بنورها الوحيد بتعدي في كل المحطات من غير وقوف، واقف قدام الباب سرحان ومستني محطة للنزول، وأنتي ورايا في ركن العربية البعيد شايفاني، بتبص لي بغضب محزون، ما كنتش واخد بالي، وفي نص طريقه، وقف القطر، ونزلت أنا وحدي، مشيت مشيت في الرمل زاحف، قدامي الضلام، وورايا القطر بيصفّر بقفل أبوابه، رميت بعيني ورايا عليه، لاقيته بينطلق على السكة، مسحت اللى سال من عيوني ساكت، وكملت الصحرا ماشي.

يوم الأحد:
النهاردة زحمة، الناس كتيرة، بأعدي في شارع شريف، وشايفنا واقفين مطرح ما كنا واقفين، درايت وشي مننا. بأفكر بس مش فاكر، أو فاكر بس مش بأفكر، زي كل الناس، بأخبّط وأتخبّط، غريب وسطيهم زي ما كلهم غربا، مشيت في وسط الناس.. زي كل الناس.

يوم السبت:
... إلخ إلخ إلخ