الأحد، فبراير ٢٨، ٢٠١٠

مُكرر: صفحة من اليوميات : يوم مع نعيمة عاكف..

... تاني يوم ، كان أجازة، خدنا بعضنا ونزلنا نتمشى في شارع مراد ، نسايم الصباحيّة روقت كل اللي كان بينّا، نعيمة كانت بتمرجح إيديها وتفرد دراعاتها في الهوا من إنبساط روحها، وتلّف دراعيها حوالين كتافي وتحضني من جنبي بشوقها المكبوت، حاولت إني أكون متزن ووقور في مشيتي معاها عشان الناس ما تبصّلناش قوي، بسّ من جوه ما كنتش قادر أطيق إننا نرجع للبيت ونقفل بابنا علينا، أسبوع والشقة مكتومة وضلمة والتراب مغطيها، الشوارع كانت غريبة كأنها صبح العيد، زحمة .. بسّ زحمتها هجران، شوية وحسيت إن نعيمة ما عادتش جنبي
وقفنا تحت صفصافة مفرّعة زي الشماسى وقعدنا على الرصيف العريض ومدينا رجلينا في نهر الشارع، ريحت راسي لفوق وشفت الشمس نازلة من بين الورق والغصون بتسمح على شعرها وتطبب على ضهرى، ما لحقتش أغمض عيني وأتمنى إن أصحى الصبح ألاقي نفسي شجر على النيل، إلا إنها قامت فجأة تعدل همومها .. وخدت خطوتين بعاد وقالت لي "يالا"، لكني فضلت قاعد أبص على مشيتها، الدلع المتداري في عقصة كعوبها مهما حاولت تمشي بإستقامة، الرقص المحسوس في حركتها الهادية، خفة صوابعها لما بتلمس الأرض بعد السرير... قمت وراها وكان في نفسي إني أشيلها على صدري زي النونو
لما حست بالتعب قالت نرجع، مشينا بنجرجر رجلينا على الأرض ساكتين، شمس الضحى بدأت تحمى وتشد حيلها علينا، إحنا ساكنين في شارع السوق، عينيَّ دايماً لازم لها لو رايح أو جاي تصبح وتمسي على الكل، الشاري والبايع، خضري وفكهاني، صبيان ومكرمشين، طوب الأرض، الطوب اللي قوم العمارات قديم وجديد، الوحل اللي عمره ما ينزاح من وش الأسفلت، كأني لسه ساكن جديد إمبارح، حطت إيديها في دراعي فجأة بعد ما كانت سرحانة طول ما إحنا راجعين، وسألتني "هو أنت ليه بطلت تكتب ؟ "، حاولت أفضل ساكت، قلت "ما بقاليش نِفس أكتب"، رجعت تسأل تاني بخباثة "مالكش نفس ولا مش عارف ؟"، قررت إني ما ردش عليها ، "يعني سكت !!"، "مش عايز أرد، هو بالعافية ؟!؟"، سكتت وشالت إيدها من دراعي بعد شوية
لما طلعنا البيت، كنا مهمودين، هي اترمت على الكرسي، وانا وقفت في نص الصالة محتاس، حتى ما كانش لينا نفس نحضّر الفطار، قلت لنفسي مش لازم اليوم الأجازة يبوظ، وأنا بأقفل القزاز على الشيش، شفت صورتها اللى معلقها وهي واقفة على ضهر الجمل فاردة دراعيها ووراها الهرم الكبير، قلت وأنا لسه بأبص في الصورة "أنتي عارفة أنا بأحب الصورة دي قد إيه ؟"، حطت وشها بعيد وقالت "آه .. كان زمان"، النور الداخل من الشيش عدي في صورة وحلاّها أكتر وأكتر
هي استغربت قوي لما ركعت على ركبي ونزلت تحت السرير، شديت كرتونة صغيرة وفتحتها وأخدت منها ورقة ومديتها ليها، أخدتها وقعدت تقراها بصوت عالي، اتوترت في مكاني وما بقيتش عارف أروح فين من صوتها، ولما خلصت رجعتها وهي بتقولي "حلوة .. عجبتنى"، دسيتها في قلب الكرتونة، زقيتها تحت السرير تاني بسرعة، سألتني "دي آخر حاجة كتبتها ؟"، قلت لها "تحبي تلعبي كوتشينة ؟"، لعبنا دورين وخسرتهم، ما كنتش عارف إذا كنت خسرتهم بمزاجي ولا هي اللى كسبتني، رفعتها على السرير في حموة الدورين ونمنا مع بعض مرتين، الأولى بركت فوقيها، حطت عينها في عيني بتحدي، بعدها رحنا في تقييلة الضهرية براحة من غير ما ناخد بالنا
لما صحينا كان كل حاجة ارتاحت وهديت، ريحة العصارى منتشرة في الأوضة، الشاي واللمون والنعناع وبرغل الحَمَام، قلت لها هأطلع أشقر على الحَمَام ووافقتني، بس اشتطرت قبل الطلوع إني أحكي لها حكايتي مع رباية الحَمَام، قلت لها إن الحكاية دي سمعتها ميت مرة وأنا حكيتها لها مليون مرة بألف طريقة، لكنها أصرّت، قلت لها إن البنت اللى شاغلتني في الجامعة هي علمتني حبّ الطير، كانت كل يوم الصبح قبل معاد المحاضرات أجي أنا وهي ونقف قدام بوابة جنينة الحيوانات ونستنى، ما كنتش عارف هي مستنية مين ولا هي عارفة أنا مستني مين، نفضل نبص فى الساعة ووشوش الشجر والناس لحد ما ييجي معاد المحاضرات ونمشي من غير ما حد ييجي ياخدني أو ياخدها، اتعرّفنا ودردشنا وضحكنا كتير، بسّ عدت سنين قبل ما نفهم إن المعاد كان بينّا إحنا الاتنين..
طلقت الحَمَام طاير في حلقاته وبراية كبيرة في إيدي مرجحتها يمين وشمال، وسرحت في حاجات كتير، في بطن باطها الطري لما بتسيبني أمرمغ راسي ووشي فيه، في ريحة الهدوم والملايات بعد النوم، في طعم فنجان القهوة اللى بتسقيهاني بإيديها أيام ما بتيجي، تهنين أوجاعي في صدرها، حاجات لما ترفرف في الذاكرة أتمنى لو أفضل قاعد في كنفها ما أتحركش بعيد، خوفي تروح منى وتسيبني، قلقى لما أكتب ما يعجبهاشي، لما أضحكها بنكتة تجيي من بُقى بايخة ورزيلة، خوفى أصبح وأملس مكانها على السرير ما لاقيهاش أبداً، عارف مش هيكون ليها قلب تقولي "مع السلامة" و"خلي بالك من نفسك من بعدي"، من بعدها بياض يخوّف ويقشعر بدني، في ظلها الوردي والخمري يعيش ويتنفس وما يموتشي
اللى فاتونى دايماً ما عرفتش ليه فاتونى ولا إمتى ؟، زي أطياف الأحلام الغريبة عدوا، زعلت لما حاولت أنساهم وزعلت أكتر لما الدنيا علمتني نسيانهم، فين الغلط ؟، كان منى ؟، طب إزاي ؟، اتشعلقت زي العيال في ديولهم ومشيت في حبّاهم، راحوا وفاتوني من غير ما ياخدوا السؤال، ومن غير ما يسيبوا الجواب، وفضلت طول الوقت حاير فيَّ وفيهم
رميت نظرة لتحت في شارعنا، لاقيت نعيمة خارجة مرّوحة من راسه وتختفى في لخبطة الناس بالعربيات، كانت هأناديها وحسيت حسي اتخنق بشلقة حجر في الزور، حاولت أستعيد كل تفصيلة حصلت في اليوم تفرّح قلبي وتخرجه من أحزانه، مديت عيوني لقدام ولاقاني النيل في عيوني، كان الليل بدأ يتسحّب من بعيد على ضهر السحاب، غبت في المشهد ساكت، وشفت المراكب الكبيرة والصغيرة عايمة وحدانية في المرواح والمجي بتنوّر زي مقامات الأوليا في الموالد على وش النيل

ليست هناك تعليقات: