الثلاثاء، يوليو ١٢، ٢٠١١

من وهم المرايات

-بإلهام من سمية ربيع-

5 يوليو 1944:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنة العشاق في زمنهم، على باب السينما مرسوم أفيش "رصاصة في القلب"، والساعة مستنيّة عقاربها تدق اتنين، لاجل الميدان يتملي طرابيش لابسة بدل على قمصان. كانت الشمس كبيرة وعالية، واقفة على دماغ الناس زيّ الحقيقة الواضحة، صالبة شعورها أسياخ تنخس ضهور الناس.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، حاضنين إيدين بعضهم بحبّ غرقان في ميّه عرق الخجل والخوف، هوّ كان لازم يلحق يروّحها البيت، وهيّ افتكرت لحن "بلاش تبوسني في عينيَّ" لما شافت الأفيش على الحيطان معروض.
على طرف الناصية وقبل ما يعدّوا الشارع وقفوا لحظة، حسّ إن فيه شئ بيشكّه، وما كانش عارف.. هوّ ده الحب اللي في قلبه؟ ولا قلقه من التأخير على المواعيد؟ ولا العرق اللي سايل تحت قميصه؟ عدى قدامهم عربجي بكارو شايل فوقيها مراية عريضة عريضة، عاكسة فيها صورة الميدان كله، بسّ الولد ما شافش من دا غير نفسه والبنت جنبه إيدها في إيده وقرص الشمس فوقهم زيّ الحقيقة الواضحة، شاف فيها باقي عمره منسوخ من اللحظة ديّه، والصورة ديّه.
لسّه العربجي بيعدي بحماره بالراحة جنب الرصيف، وهوّ على لسانه كلمة حُبّ حَ يقولها، جت بدالها نظرة واحدة طويلة طويلة، بتتكلم من غير نقط وحروف، والإبتسامة بعدها اترسمت على الشفايف هادية ومش خايفة من التأخير، وقرص الشمس اتقسّم بسن المراية الفايتة شموس أصغر.

5 يوليو 1977:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنّة للعشاق بسّ مقفولة، على باب السينما منشور أفيش "أفواه وأرانب"، والساعة بتدق اتنين إلا ربع في الفوّالة، اتنين إلا عشرة عند الكخيا، اتنين إلا خمسة في عدلي، واتنين في الألفي. والشمس الكيّادة فاردة شعورها خراطيم تنفخ لهيب يسيّح كل الجوامد.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، من زحمة الناس يقفوا كل خطوتين، والحَرّ لفّ حوالين رقابهم حبال من خيش وخلي طعم الكلام في حلقهم ماسخ، والحيرة اللي اتجمدت في قلوبهم دلوقتي بتتسرّب من بين ضوافرهم. كان سهل يتوهوا وسط الناس ويروح كل واحد في طريق وحده، بسّ السؤال اللي خايف من الإجابة، "إيه اللي كان قبل؟ إيه اللي يبقى بعد؟"، قيّدهم في بعض، لأن كل شئ مع الإجابة حَ ينفلت بعيد ومش راجع.
على الرصيف وقع لوح قزاز واتدشدش تحت رجليهم، الطريق اتفرش كسور وشظايا، ومن صورة واحدة بقوا ألف صورة متنتورين، ألف إيد وألف بق وألف عين. البنت حسّت إن الشمس اللي لمعت في فتافيت القزاز خزقت عيونهم بكل كره قديم وقسوة ممكنة، ودلوقتي هيّ خايفة من عماها تمد خطوة قدامها.
وبصّت في عيون الولد، كانت جفونه بتبربش على إجابة فيهم بترتعش.

5 يوليو 2011:
ميدان الأوبرا، والأزبكيّة جنّة العشاق المنسيّة، على باب السينما منشور أفيش فاضي مكتوب عليه "قريبًا" ، والساعة ممكن تدق اتنين في أي لحظة محتملة، والشمس كوره من الدهب بتتدحرج على وشّ العالم بتقل مؤلم، وتفتح جروح الناس بلسعة كرابيجها.
وكان فيه بنت وولد على الرصيف ماشيين، هوّ دايخ والدنيا في عينه مايلة، مايلة على صدره الضعيف، وهيّ بتشبك نفسها في الأرض برجلين زيّ الفراخ، ولو تسلّم نفسها للنسيم السخن راح تختفي في عين الشمس، وكان التاجر القاعد في محله ورا البتارين كأنه ملك الزمن نفسه بيتفرج بعين ناعسة على الناس الجاية والرايحة، والبتارين هي شاشة تلفزيونه اللي بيشوف فيها كل ألوان الحياة.
أما الولد والبنت، فما حدش غيرهم من الماشيين خد باله إن البتارين بتعكس الصورة الكاملة، شافوا فيها الشمس كابسة فوق ضهر العالم، والناس غايمة زيّ البخار، بسّ فين هيَّ وفين هوَّ؟ كانوا أرفع من العواميد، وأطول من الشجر، أعرض من العربيات، وأقصر من الدكك، فيهم شئ بيضم سوا كل معنى ونقيضه.. الأمل واليأس، السعادة والحزن، الخيال والواقع، أو يمكن معنى أكبر من إن يكون له دليل في فهرس المعاجم.
مطرح ما عدّوا سابوا ابتسامات واسعة على كل البتارين، كسفوا الشمس الحامية وفضلوا ينوّروا في الميدان بدالها لحد المغرب وطول الليل.

هناك تعليق واحد:

Jimmy يقول...

دي أجمل تدوينة قريتها من فترة طويلة