إلى محمد مستجاب -رحمه الله-
أفاق من غفوته عندما سقط رأسه على صدره، نظر يمينًا ويسارًا، واطمئن أن لا أحد يراه، الكل مشغول في عمله تقريبًا. مسح لعابه السائل فوق شفتيه بيده ونهض من مكتبه، ثم خرج إلى الصالة الرئيسية، نظر إلى الساعة، الثانية عشر مساءً. شرب سيجارة، وتأمل الشارع من النافذة، أحس بملل الإنتظار يأكله، لم يأت إلى العمل اليوم إلا للإنتهاء من إنتظاره الطويل.
هبط إلى الدور الثالث. تجوّل بين المكاتب، مكتب التحرير، مكتب المتابعة والتحليل، سلّم على الزملاء، وتبادل الأحاديث حول حركة التغييرات الجديدة، عبر مكتب الشئون سريعًا كي لا يراه إبراهيم. في مكتب التصديقات، سأل على الأستاذ عباس، لم يأت إلى العمل اليوم، قرأ تاريخ اليوم على نتيجة الحائط، ثم خفض رأسه إلى صدره وزفر زفرة حارة.
صعد إلى الدور الخامس. صادف أمنيّة على الدرج، حيّاها بابتسامة زائفة، ردت عليه بتحية الصباح وتوقفت، فكّر ألا يتوقف من أجلها، لكنها سدت عليه طريقه. سألته عن أحواله، سألها عن رئيس الهيئة، أجابت أنها لا تدري. ربع دقيقة من الصمت مرّت، بدت وكأنها دهرًا مميتًا، كانت ترسل فيها نظرات تحمل إليه رسائل لا يريد استقبالها. تنهّد ثم ودّعها وأكمل صعوده.
دخل مكتب السكرتيرة. ألقى التحيّة عليها وجلس، انتظر حتى انتهت من مكالمة التليفون، ثم سألها عن رئيس الهيئة، لم يأت إلى العمل بعد، أخبرها أنه لا مانع لديه من الإنتظار. دخل الساعي حاملًا صينيته، سألته إذا كان يحب أن يشرب شيئًا، فنجان قهوة، عادت إلى أوراقها المتناثرة فوق سطح المكتب. حاول قضاء الوقت والتودد إليها ببضعة أسئلة واستفسارات لكنها كانت منشغلة تجيبه من بين الأوراق، هل باستطاعته التدخين، ومتى سيحضر بسلامته، وهل هناك أية أخبار عن الطلب الذي تقدم به إلى رئيس الهيئة، نظر إلى الساعة الموضوعة على المكتب، الساعة الثانية عشر وخمسة عشر دقيقة، الوقت يمضي في الهيئة أبطأ من كل ساعات العالم. طرق الساعي الباب، الرئيس هنا، خرجت السكرتيرة مسرعة، ثم عادت بعد عشر دقائق، الرئيس مشغول وسيغادر إلى مقر الوزارة خلال نصف ساعة، رفع رأسه إلى أعلى يائسًا وأطلق سبة في سره.
هبط إلى الدور الرابع. مر على مكتب زميله أسعد، اشتكى له توقف الحركة داخل الهيئة، الوقت والإجراءات، وتساءل يائسًا لماذا يطير اليوم في الخارج بسرعة بطريقة يبدو معها الوقت هنا جحيمًا أبديًا؟ طلب أسعد له كوبًا من الشاي، لكنه لم ينتظره، وقام يتجول بين المكاتب الأخرى في ردهة الدور، سليم يقرأ الجرائد، هناء تثرثر مع كريمة وهي جالسة على مكتبها، توفيق يشرب قهوته بلا أية عمل آخر. عبر الصالة الرئيسية، ونظر إلى الساعة، الساعة الواحدة وخمس دقائق.
اكتشف أنه أمام مكتبه.
ظلّ واقفًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق