وقفت السمراء أمامي ثم ضغطت زرّ التشغيل، فانطلق سير الماكينة في الدوران مصدراً صوتاً عالياً مزعجاً في أذنيّ مماثلاً لضجيج الجحيم، نظرت إليها مستعطفاً أن توقفها لكنها نظرت في عينيَّ بتحدٍ غليظ جعلني أنكمش.
رفعت ذراعها والتقطت عوداً معلقاً في الهواء فوقها، ثم ناولته إليّ، وكسرت إظفرها ووضعته في راحة يدي قائلة أمرها الصارم:
- اعزف لي.
كانت تروس الماكينة السوداء العارية الدائرة قد برّت من أعصابي ما يكفي حتى شارفت على الإنهيار، قلت لها في إرهاق محاولاً أن يكون قولي حاسماً:
- لا أستطيع !!
لم تكرر أمرها مرة أخرى، بل نقلت مستوى سرعة الماكينة إلى الأسرع، شعرت أن هناك نزفاً حاراً قد تدفق في أعلى رأسي من الصداع، أبعدت رأسي إلى الوراء مبتعداً، وتأوهت من الألم، كدت أسقط بالكرسي على ظهري، ألقت نظرة تحدي شيطانية في عيني ثم وضعت سن إظفرٍ آخر في منتصف أحد أعمدة الماكينة الحادة، فصدر صفيراً رفيعاً لعيناً نتج عن احتكاكهما، اتسعت عينيَّ رعباً وقلت لها راجياً:
- أرجوكِ، كفى !..
- اعزف.
وبدا من وجهها الألم لحظة اقتراب اصبعها من التهام العمود القاطع ما دفعني أن أتأهب بالعود في وضع الاستعداد وأمسك إظفرها الموضوع في يدي كريشة عزف، نزعت يدها من قلب الماكينة في برود، ثم مسحت طرف إصبعها الدامي في طرف ياقة ملابسها، نظرت إليه بمزيد من الإشفاق والهوان، أشرت لها أن تطفئ الماكينة حتى أستطيع دوزنة العود، فرفضت قائلة في صلفٍ:
- تستطيع العزف هكذا.
تقوست والعود في أحضاني، داعبت أوتاره محاولاً تجاهل ذلك العويل المستمر الذي يثقب رأسي كمسمار جهنمي، انحنيت أكثر تجنباً قسوة أوامرها، لكنها فجأتني بسؤالها:
- أتعلم ؟
رفعت رأسي نحوها متسائلاً:
- ماذا ؟
- .......
- ماذا ؟
- لا شئ.
لم أستطع خفض عينيَّ عن وجهها، وقلت لها:
- أنا جبان.
- ...........
- لعلّي لست جريئاً بالقدر الكافي.
- ..........
- وربما لأنني لست...
قاطعتني بعصبية ظاهرة:
- اخرس. اخرس. لا تقلها. أنت لا تفهم شيئاً.
أشاحت بعيداً عني لعدّة دقائق، ساد صوت الماكينة علينا، قبل أن تمسح تحت عينيها، وترتد إليّ قائلة بصوتٍ مخنوق:
- خذ شهيقاً عميقاً وعد إلى عزفك.
تشاغلت عنها بالانتهاء من ضبط الأوتار، وشرعت في العزف حذراً، ثم ارتقيت الثقة تدريجياً.
أغمضت عينيَّ، وابتعدت بخيالي مسافراً، سمعت صدى يتسلل، خرير ماء نهرٍ يتدفق، نهر قد يدعى النيل أو الليطاني أو دجلة أو الفرات، تناديه ألحان عودي، يمر تحت أقدامي، ثم يفيض فيحملني كزورق خشبي رُسمت فوقه الأسماء والزخارف والأغصان والأطيار، يحملني هادئاً في رحلة أبديّة بلا هدى ولا نهاية، مجرداً إلا من هذا العود، أدق عليه طربي ونشوتي، وتعبر فوقي آلاف الشموس والأقمار، وتظهر وتختفي ملايين النجوم والشهب، وأظل أعزف منسجماً سابحاً بين ضفاف اليقظة والنوم والموت والخلود.
فتحت عينيَّ، فوجدتها تقترب مني بعد أن أطفئت الماكينة، ركعت أمامي، نظرت إليها متعجباً، اختلجت أناملي فوق الأوتار، علقت خلاخيل ذهبية حول كاحلي في حنان، ثم أمسكت قدمي وهزتها مرتين فصدر منها رنين خافت، رفعت وجهها إليّ ونظرنا إلي بعضنا في رفق مبتسمين.
نهضت ثم جذبت كرسياً من الهواء، ورقاً صغيراً معلقاً، ثم جلست في مقابلتي ضامة أكتافها في انتظار، رفعت يدي بالإشارة، عدت للعزف برفقتها طوال الليلة الماضية.
رفعت ذراعها والتقطت عوداً معلقاً في الهواء فوقها، ثم ناولته إليّ، وكسرت إظفرها ووضعته في راحة يدي قائلة أمرها الصارم:
- اعزف لي.
كانت تروس الماكينة السوداء العارية الدائرة قد برّت من أعصابي ما يكفي حتى شارفت على الإنهيار، قلت لها في إرهاق محاولاً أن يكون قولي حاسماً:
- لا أستطيع !!
لم تكرر أمرها مرة أخرى، بل نقلت مستوى سرعة الماكينة إلى الأسرع، شعرت أن هناك نزفاً حاراً قد تدفق في أعلى رأسي من الصداع، أبعدت رأسي إلى الوراء مبتعداً، وتأوهت من الألم، كدت أسقط بالكرسي على ظهري، ألقت نظرة تحدي شيطانية في عيني ثم وضعت سن إظفرٍ آخر في منتصف أحد أعمدة الماكينة الحادة، فصدر صفيراً رفيعاً لعيناً نتج عن احتكاكهما، اتسعت عينيَّ رعباً وقلت لها راجياً:
- أرجوكِ، كفى !..
- اعزف.
وبدا من وجهها الألم لحظة اقتراب اصبعها من التهام العمود القاطع ما دفعني أن أتأهب بالعود في وضع الاستعداد وأمسك إظفرها الموضوع في يدي كريشة عزف، نزعت يدها من قلب الماكينة في برود، ثم مسحت طرف إصبعها الدامي في طرف ياقة ملابسها، نظرت إليه بمزيد من الإشفاق والهوان، أشرت لها أن تطفئ الماكينة حتى أستطيع دوزنة العود، فرفضت قائلة في صلفٍ:
- تستطيع العزف هكذا.
تقوست والعود في أحضاني، داعبت أوتاره محاولاً تجاهل ذلك العويل المستمر الذي يثقب رأسي كمسمار جهنمي، انحنيت أكثر تجنباً قسوة أوامرها، لكنها فجأتني بسؤالها:
- أتعلم ؟
رفعت رأسي نحوها متسائلاً:
- ماذا ؟
- .......
- ماذا ؟
- لا شئ.
لم أستطع خفض عينيَّ عن وجهها، وقلت لها:
- أنا جبان.
- ...........
- لعلّي لست جريئاً بالقدر الكافي.
- ..........
- وربما لأنني لست...
قاطعتني بعصبية ظاهرة:
- اخرس. اخرس. لا تقلها. أنت لا تفهم شيئاً.
أشاحت بعيداً عني لعدّة دقائق، ساد صوت الماكينة علينا، قبل أن تمسح تحت عينيها، وترتد إليّ قائلة بصوتٍ مخنوق:
- خذ شهيقاً عميقاً وعد إلى عزفك.
تشاغلت عنها بالانتهاء من ضبط الأوتار، وشرعت في العزف حذراً، ثم ارتقيت الثقة تدريجياً.
أغمضت عينيَّ، وابتعدت بخيالي مسافراً، سمعت صدى يتسلل، خرير ماء نهرٍ يتدفق، نهر قد يدعى النيل أو الليطاني أو دجلة أو الفرات، تناديه ألحان عودي، يمر تحت أقدامي، ثم يفيض فيحملني كزورق خشبي رُسمت فوقه الأسماء والزخارف والأغصان والأطيار، يحملني هادئاً في رحلة أبديّة بلا هدى ولا نهاية، مجرداً إلا من هذا العود، أدق عليه طربي ونشوتي، وتعبر فوقي آلاف الشموس والأقمار، وتظهر وتختفي ملايين النجوم والشهب، وأظل أعزف منسجماً سابحاً بين ضفاف اليقظة والنوم والموت والخلود.
فتحت عينيَّ، فوجدتها تقترب مني بعد أن أطفئت الماكينة، ركعت أمامي، نظرت إليها متعجباً، اختلجت أناملي فوق الأوتار، علقت خلاخيل ذهبية حول كاحلي في حنان، ثم أمسكت قدمي وهزتها مرتين فصدر منها رنين خافت، رفعت وجهها إليّ ونظرنا إلي بعضنا في رفق مبتسمين.
نهضت ثم جذبت كرسياً من الهواء، ورقاً صغيراً معلقاً، ثم جلست في مقابلتي ضامة أكتافها في انتظار، رفعت يدي بالإشارة، عدت للعزف برفقتها طوال الليلة الماضية.
هناك تعليق واحد:
أنتَ فشيخٌ يا عزيزي :)
إرسال تعليق