انتهى النهار الصيفى الطويل بمغرب وليل يظلم بطيئاً، وانتهى معه أول يوم عمل بالمحل بالنسبة لهذا الشاب، وهاهو ينتهى من تسليم ورديته لزميله، ليخرج من الشارع الفرعى إلى شارع (الهرم) الرئيسى -والذى يراه لأول مرة فى حياته- حيث أعجبه مشهد الشارع بكل تفاصيله من شجر وأزهار ومنازل وسيارات وإعلانات بيضاء مضيئة فوقف فى مكانه يتأمله وينسى سيرة حياته فى وسط المشهد الهادئ، والنسيم البارد يمر بقميصه الخفيف وذراعيه العاريين ووجهه، حتى جاءته سيارة من خلفه تزمجر، فأستفاق لنفسه وترك موقعه فى منتصف الشارع، وضع يديه فى جيوبه منتشياً، وأخذ فى السير متهادياً نحو المحطة
"مؤسسة.. مؤسسة.. مؤسسة"
بين صراخ المنادين على سياراتهم يبحث عن سيارة ليست مكدسة بالراكبين، يختار المنشودة، ويقبع فى داخل آخر كراسيها، منتظراً حتى تحمل بالراكبين، يضم ركبتيه نحو صدره مستنداً على الكرسى أمامه، ويحدق فى السماء المظلمة المغطاة بالسحب من خلال النافذة، كأن الليل ماهو إلا غشاء حريرى رقيق تحت تلك السحب الوردية يحجب النور عن الأرض، فأغمض عينيه كأنه يتمنى أن يكون هذا آخر ما تراه عيناه والتعب يخرج من بين أصابع قدميه المتعبتين
لم يدرى بنفسه إلا عندما أحس بهزة محرك السيارة من تحت كرسيه، وجد السيارة قد إمتلات بالراكبين، فأعتدل فى جلسته وأخرج بلا وعى الأجرة وسلمها للذى أمامه، وصوت السيدة أم كلثوم ينساب من راديو السيارة بأغنية "رق الحبيب"، يهز رأسه فى خفة متمايلاً مع الألحان داساً عيناه فى النافذة متأملا الطريق، واسترخى فى مقعده وغاص فيه أكثر وأكثر كأنه انفصل به عن بقية السيارة والعالم بأكمله