السبت، مايو ٢٨، ٢٠١١

بره المكان، بره الزمان

- أنتَ عارف إن ممكن ده ما حصلش؟
- إيه اللي ما حصلش؟
- اللي بيحصل دلوقتي!
- قصدك يعني إنه ما حصلش قبل كده؟
- لأ.
- أبقى مش فاهمك!
- بالراحة بالراحة.. عندك دليل؟
- دليل لإيه؟
- دليل للي بيحصل!
- ....
- طيّب .. إحنا فين؟
- إحنا.. إحنا في الزمالك.. لا لا.. في جاردن سيتي... إيه ده؟ الأماكن في بالي شبه بعضها ومش عارف إحنا فين! فين صحيح؟
- مش مهم.. والساعة كام دلوقتي؟
- مش معايَّ ساعة! مش عارف!
- شفت بقى؟
- لأ، دليلي إن أنتِ قدامي دلوقتي وبتكلميني، وإن الناس اللي رايحة وجاية لسه بتروح وتيجي!
- تعرف إسمي؟
- إيه؟.. إسمك.. إسم.. لأ.. مش فاكر الصراحة!
- يبقى دليلك ضعيف ومحتاج إثبات.
- قصدك إننا في حلم ولا خيال؟
- كل شئ وارد.
- طيّب وبعدين؟
- ولا قبلين. ممكن ترتاح هنا شوية معايَّ.
- أنا مرتاح، بس عايز أعرف الحقيقة. باحاول أفتكر وصلنا للحظة دي والمكان ده إزاي؟
- ما تحاولشي، خد عندك مثلاً.. أنا وأنتَ واقفين في نص الشارع دلوقتي، يا أخ.. يا أخ، بطل تفكير، خليك معايَّ هنا، الحاضر مش دايما محسوس، إيه الحاضر أصلاً؟ الحاضر كلمة هشة انحشرت بالغصب بين كلمة البني آدم وإسمها ماضي وكلمة ربنا وإسمها مستقبل.
- مش وقت شعر وفلسفة على فكرة.
- ليه؟
- عشان. إحنا. محبوسين.
- أبدًا، أنتَ دلوقتي بتعيش خلودك في الأبد.


- سكت ليه؟
- يعني أقول إيه؟
- قولي حاجة.. أي حاجة.. قول بحبّك.. قول كرهتك.. ما تزغر ليش قوي كده! أنتَ ممكن تموت هنا بالمناسبة.
- شكرًا.
- عفوًا. مش حَ تلاقي مكان ولا زمان أنسب من كده، صدقني.
- أنسب لإيه؟
- للموت .. أو الحب.
- يا سلام!!
- ما هو الإنسان لو مش بيموت .. يبقى أكيد بيحب.
- أو بيكره مثلاً.
- ما فرقتش كتير.
- لأ فرقت، الموت والحب والكره برضه لهم مكان وزمان، إحنا لا في زمان ولا في مكان.
- مين قال؟ إحنا في مكان وزمان بس مش عارفين إيه همَّ.
- أنا حتى دلوقتي مش عارف إحنا واقفين مع بعض بقى لنا قد إيه؟
- وعشنا سوى العمر ولا يومين.
- أنا حتى مش قادر أمشي لأني مش عارف أنا فين!
- نفسي أفهمك يا أخي. ليه أنت مصّر على إنك تعرف مكاننا وزماننا.
- عشان يبقى عندي إثبات إن ده بيحصل!
- وهو مهم؟ افترض إنه ما حصلش.
- ما حصلش إزاي وهو بيحصل؟
- وبعدين ما هو لو حصل حَ يكون خلص ويروح لحاله. لكن لو ما حصلش فهو عمره ما حَ ينتهي.
- أنتِ مجنونة.
- ممكن تقول للناس اللي بتروح تقرا روايات ومسرحيات خيالية ما حصلتش أكتر ما بتقرا كتب التاريخ اللي حصل إنهم همَّ كمان مجانين!
- ممكن.




- أنت عارف إن ممكن تكون بتحبّني؟
- ... !

الاثنين، مايو ٠٩، ٢٠١١

دورة العمل

إلى محمد مستجاب -رحمه الله-

أفاق من غفوته عندما سقط رأسه على صدره، نظر يمينًا ويسارًا، واطمئن أن لا أحد يراه، الكل مشغول في عمله تقريبًا. مسح لعابه السائل فوق شفتيه بيده ونهض من مكتبه، ثم خرج إلى الصالة الرئيسية، نظر إلى الساعة، الثانية عشر مساءً. شرب سيجارة، وتأمل الشارع من النافذة، أحس بملل الإنتظار يأكله، لم يأت إلى العمل اليوم إلا للإنتهاء من إنتظاره الطويل.

هبط إلى الدور الثالث. تجوّل بين المكاتب، مكتب التحرير، مكتب المتابعة والتحليل، سلّم على الزملاء، وتبادل الأحاديث حول حركة التغييرات الجديدة، عبر مكتب الشئون سريعًا كي لا يراه إبراهيم. في مكتب التصديقات، سأل على الأستاذ عباس، لم يأت إلى العمل اليوم، قرأ تاريخ اليوم على نتيجة الحائط، ثم خفض رأسه إلى صدره وزفر زفرة حارة.

صعد إلى الدور الخامس. صادف أمنيّة على الدرج، حيّاها بابتسامة زائفة، ردت عليه بتحية الصباح وتوقفت، فكّر ألا يتوقف من أجلها، لكنها سدت عليه طريقه. سألته عن أحواله، سألها عن رئيس الهيئة، أجابت أنها لا تدري. ربع دقيقة من الصمت مرّت، بدت وكأنها دهرًا مميتًا، كانت ترسل فيها نظرات تحمل إليه رسائل لا يريد استقبالها. تنهّد ثم ودّعها وأكمل صعوده.

دخل مكتب السكرتيرة. ألقى التحيّة عليها وجلس، انتظر حتى انتهت من مكالمة التليفون، ثم سألها عن رئيس الهيئة، لم يأت إلى العمل بعد، أخبرها أنه لا مانع لديه من الإنتظار. دخل الساعي حاملًا صينيته، سألته إذا كان يحب أن يشرب شيئًا، فنجان قهوة، عادت إلى أوراقها المتناثرة فوق سطح المكتب. حاول قضاء الوقت والتودد إليها ببضعة أسئلة واستفسارات لكنها كانت منشغلة تجيبه من بين الأوراق، هل باستطاعته التدخين، ومتى سيحضر بسلامته، وهل هناك أية أخبار عن الطلب الذي تقدم به إلى رئيس الهيئة، نظر إلى الساعة الموضوعة على المكتب، الساعة الثانية عشر وخمسة عشر دقيقة، الوقت يمضي في الهيئة أبطأ من كل ساعات العالم. طرق الساعي الباب، الرئيس هنا، خرجت السكرتيرة مسرعة، ثم عادت بعد عشر دقائق، الرئيس مشغول وسيغادر إلى مقر الوزارة خلال نصف ساعة، رفع رأسه إلى أعلى يائسًا وأطلق سبة في سره.

هبط إلى الدور الرابع. مر على مكتب زميله أسعد، اشتكى له توقف الحركة داخل الهيئة، الوقت والإجراءات، وتساءل يائسًا لماذا يطير اليوم في الخارج بسرعة بطريقة يبدو معها الوقت هنا جحيمًا أبديًا؟ طلب أسعد له كوبًا من الشاي، لكنه لم ينتظره، وقام يتجول بين المكاتب الأخرى في ردهة الدور، سليم يقرأ الجرائد، هناء تثرثر مع كريمة وهي جالسة على مكتبها، توفيق يشرب قهوته بلا أية عمل آخر. عبر الصالة الرئيسية، ونظر إلى الساعة، الساعة الواحدة وخمس دقائق.

اكتشف أنه أمام مكتبه.
ظلّ واقفًا.