الاثنين، فبراير ١٤، ٢٠١١

بوسة

أمرتنى أمي أن أصعد لأبلة (سامية)، كي أقضى عندها وقتاً حتى يتسنى لأمي الذهاب إلى الطبيب، كنت أشعر بالسعادة لأن (إيمان) إبنة أبلة (سامية) التي تكبرني بثلاثة أعوام سوف تجالسني هذه المرة، فقفزت إلى أحضان أمي وقبلتها. قالت لي قبل أن أخرج من باب الشقة، "ما تتشاقاش، هه؟".
تسلقت السلم درجة درجة ممسكاً بالحاجز الحديدي، وضوء النهار يسقط من أعلى حتى أسفل السلم، أكملت صعودي ثم توقفت عند الباب لاهثاً، طرقته طرقة خفيفة ثم تراجعت. فتحت لي أبلة (سامية)، كانت ترتدي ثوباً منزلياً باهت اللون، رحبت بي ودعتني للدخول، وسألتني في لطف "بقى عندك كَم سنة دلوقت؟"، أجبتها "سبعة ونص"، وبينما كنت أعبر طريقي إلى غرفة (إيمان) سمعت أصواتاً تعلو، فالتفت التفافة خفيفة ورأيت عمّ (عبد الباقي) في غرفة الجلوس مع رجل آخر، أكملت سيري نحو الغرفة، طرقت بابها مرتين قبل أن أسمع صوت إيمان يهتف "أدخل".
وجدت (إيمان) واقفة في منتصف الغرفة كأنها تنتظرني، قالت لي "تعالى اقعد يا حسين"، ثم تركتني وخرجت من الغرفة وجذبت الباب وراءها. كانت غرفتها الصغيرة منظمة، يتوسطها سرير عريض وسجادة حمراء مستديرة، ودولاب ملابس عريض يغطي أحد حوائط الغرفة، تقف فوقه عدة دمى. فكرت أنني عندما أعود إلى غرفتي سوف أرتبها مثلما رأيتها ترتبها من قبل. كنت أحب مجالسة (إيمان) لي، حيث أنها كانت الأقرب إلى سني، ونادراً ما رفضت اللعب معي، ومشاركتي القصص التي كنت أرويها لها.
عادت إيمان تحمل صندوقاً مغلقاً. لاحظت أنها متجهمة، وضعت الصندوق فوق السجادة، حاولت أنا نزع غطاءه ولم أفلح، ففتحته هي، وأخرجت منه بعض الألعاب الصغيرة والدمى، وجلست أفكر بماذا نلعب هذه المرّة، قلت لها "تحبي تلعبي بإيه؟"، قالت شاردة البال "أي حاجة"، فعدت أخيّرها حتى أجعلها تنتبه "تحبي تاخدي البنت والولد وأنا أرتب العيال على الكراسي؟"، كررت بنفس شرودها "أي حاجة"، صحت فيها، فأخذت الدميتين من يدي بعنف ووضعتهما أمامها، شعرت بالحزن، عدت للبحث عن ما تبقى من الألعاب والدمى التي أخرجتها، وبينما كنت أبحث داخل الصندوق وقعت يدي طائر خشبي دقيق الهيئة بلا رأس، هتفت من الإعجاب "الله ! حلو قوي .. بس فين بقيته ؟"، أجابت ضجرة "بابا كسرها"، فتشت داخل الصندوق عن بقية الدمية حتى وجدت الرأس، أخذت جسد الطائر ثم جمعته برأسهِ لكنه لم يلتصق فيه، اعترضتني (إيمان) بصوتٍ حزين "ما تحاولش.. مش هيتصلّح"، فكرت قليلاً وأنا أنظر إلى الطائر، ثم أخذت أحاول إصلاحه بطرقٍ عديدة حتى استطعت ثبيت رأس الطائر في جسده والتئم جزءا الدمية ببعضهما.
اختطفت (إيمان) الطائر من بين يدي في سعادة، ثم رفعته عالياً وحركته يمنى ويسرى في وضع الطيران ثم ضمته إلى صدرها، اتسعت ابتسامتها على شفتيها، كم سعدت لحظتها بنظرات الفرح التي كانت تغمر بها طائرها الخشبي، ظلّت تردد عبارات الشكر والعرفان قائلة "أنا أحب اللعبة دي قوي"، ثم أخرجت قطعتين من الحلوى المغلفة وأهدتهما إليَّ، في تلك اللحظة شعرت بالخجل من امتنانها ولم أدر كيف أجيبها، فاقتربت منها وقبلتها على وجنتها سريعاً أثناء انشغالها باللعب بطائرها، أدارت وجهها إليَّ في ذهول بينما كنت أعود إلى موضعي السابق بجانبها، وأخفضت وجهي إلى الأرض، سكن كل شئ للحظات، وشعرت بالخطر في هذا السكون، ثم سمعتها تقول بصوتٍ مبحوح "هأقول لماما" وانطلقت تجري خارجة من الغرفة، قفزت خلفها لكنني لم أستطع اللحاق بها فبقيت في مكاني خائفاً، فكرت دقيقةً بالتسلل خارج الشقة، لكن أمي لم تعد بعد من عند الطبيب، شعرت بالرهبة وظللت في مكاني على الأرضية خائفاً، هل ستخبر والديها؟
سمعت صوت أبلة سامية ورنين أواني معدنية تسقط، فاقتربت من باب الغرفة، ورأيت (عم عبد الباقي) يقطع الصالة إلى المطبخ ووراءه الرجل الآخر الذي كان جالساً معه، تراجعت إلى طرف السرير والتصقت به، لم أعرف ماذا يحدث ؟، ولا أعلم لِمَ تخبر إيمان أهلها؟!
مرّ وقتاً حتى دخل الرجل الغريب عليَّ الغرفة، انحنى وأمسك ذراعي بقوة وجذبني كي أقف، جلس على المقعد وأنا بين يديه، نظر إليَّ بحدة من فوق إطار نظارته ثم سألني، "إسمك إيه يا حبيبي؟"، أجبت برهبة:
-حسين
- بابا فين يا حسين؟
- .. مسافر
أطلق زفرة حارة وصمت قليلاً، ثم سألني:
- أنتَ عارف أنا مين ؟
هززت رأسي أن "لا"، فقال،"أنا خال إيمان"، ثم أضاف:
- أنتَ عارف إن اللي عملته ده غلط؟
- أنا متأسف.. ما كانش قصدي يا عمّو.. هي اديتني البونبوني وأنا كنت بأشكرها.. أء..
قاطعني لائماً، "أنت عارف إنه ما يصحش الولاد يبوسوا البنات؟"، لم أعرف كيف أجيبه، أبعدت نظري عن وجهه بينما كانت الأصوات القادمة من خارج الغرفة تعلو أكثر، سمعت عمّ (عبد الباقي) ينادي الخال، "يا مصطفى.. يا مصطفى"، صاح الخال، "أيوه"، ثم نهض تاركاً إياي وخرج مغلقاً الباب خلفه بقوة، هدأت الأصوات مرّة واحدة، ظللت صامتاً مترقباً ما سوف يحدث، مضت الدقائق وأنا أنظر إلى الباب المغلق والملابس المعلقة فوق المشجب، كنت أود الخروج من هنا، اتجهت إلى الباب، لم أجرؤ على فتح باب الغرفة وإلقاء نظرة خارجه، نظرت من ثقب المفتاح فلم أرى إلا كنبات غرفة الجلوس شاغرة، وضعت أذني على الباب وأرهفت السمع فلم أسمع شيئاً، كأنه لم يعد هناك أحد بالمنزل، التقطت الطائر الملقى على الأرض بينما كنت أعود إلى المقعد، تذكرت القبلة الخاطفة، وفكرت في أمي، ماذا سوف تقول وتفعل إذا أخبروها بما حدث؟، انتظرت عودة أمي بصبرٍ نافد، أخفيت وجهي بين يديَّ، ثم تطلعت إلى الباب مرّة أخرى.

السبت، فبراير ١٢، ٢٠١١

وللدمّ النبيل كرامة


خُد العلم من إيد الشهيد وإمشي في طريقه. آدي دمه بيجري قدامك وشق لك سكّة. اللي يعرف معنى كلمة "دم" يعلم إنّ الدمّ غالي، لأنه قصاص للحيّ قبل ما يكون للشهيد، لأنه شقا مبذول ساعة حق، ولأنه نبضة قلب صادق ضميرها، لولاه ما كان الطريق صبّح لنا واضح ومستقيم، ولولاه ما كان طلع علينا النهار رايق وسليم. الحياة أصعب ما دام الطريق اتفرش بالدمّ، والبقعة منه زيّ الحرق على صدر الناجي، علامة إن الحاضر شايل كرامتين وإنسانيتين: الشهيد ونفسه.