السبت، أكتوبر ٣١، ٢٠٠٩

حضن

فضلت ألف في دواير في حوش الكلية وأنا بأعرج من الضرب والوجع، وشي كان كله دم نازف وكدمات سودا، الطلبة والدكاترة ملمومين حواليَّ في دايرة أوسع بيتفرجوا عليَّ، كنت بأزعق في اللي دخلوا يجيبوا رجلين الكراسي وألواح الدكك عشان يرجعوا يكسّروا عضامي بيها، "أيوة، أيوة، أنا مجنون، مجنون، مجنون... إبعدوا عني، محدش يقرب لي، سيبوني"، فضلت أعوي زي الكلاب المسعورة في الحوش وأشوح بإيدي في كل ناحية، الشمس الحامّية خليتني أزيد في جنوني بحريقها، مكنتش شايف الناس إلا وشّ واحد بيتكرر، وش بيضحك من فرط القساوة..
اتقدمت السمرا زي الحلم من بين الصفوف ناحيتي بشويش، بتأخر رجل وتقدم رجل، كنت بأصّرخ في السما طالق سيل شتايم، مدت إيدها مترددة، إيدي ضربت خدها بالألم بالغصب، لكنّها دخلت في حضني بقوة وشدت إيدي حوالين بدنها الصغير، شميت ريحة شعرها المغسول وحسيت بدوخة، سلمت نفسي ليها، ضمّت دراعي جنبي وحضنتني، انفجر الدمع من عيوني بدل من شرار الغضب، لحد ما عيوني زغللت من العيّاط وما بقيتش شايف حاجة ولا حد غير أطياف نور بعيدة، فضلت تمسح على راسي وضهري، وتمتم في ودني، حضنتني أكتر وأكتر، جسمها الدافي طلع الحرقة من عينيّ، وبدأت تقفل واحدة واحدة، مسحت خدها في خدي، نامت راسي على راسها. شفتهم كانوا رجعوا جايين واحد ورا التاني شايلين في إيديهم المكانس ورجلين الكراسي وجايين ناحيتنا، قلت لها "حوشيهم عني"، سألت باستغراب "مين؟"، كررت والبكا مغرَقني ومغرَقها "حوشيهم عني"، ضمّيتني في صدرها أكتر من الخوف عليّ لحد ما اختفيت جواها وبقت بتحضن نفسها..

الجمعة، أكتوبر ٢٣، ٢٠٠٩

آي آي


ليت الفتى حجرٌ، ليت الفتى ما يحب،
...
ما تقفش قدامها، وإذا سلّمت عليها إيدك من الحُب تقول: آي، زي شكّة دبوس شعرها في قلبك. ما تقفش قدامها كتير، ارقص، غنّي، زغرط، ارقع بالصوت الحيّاني، لا تفضل أنت تفور وتغلي زي الوابور، وتاخد أنفاسك بسرعة وتبخّرهم في الجوّ بابتسامتها الساكتة الواسعة المعتادة، ما كل مرة الدباييس في قلبك تغرز أكتر، فبلاش تقف قدامها.
هي علامة استفهام متربعة بالغيظ على كرسي، لو مدت إيد تبقى مش فاهم!، ولو عقدتها برضه مش فاهم!، والتعب اللي شلته لوحدك، هبد عقلك القزاز ودشدشه على الأرض تراب مع كناسة الأرصفة. يا خسارة عليك يا قليل الحيلة!!، عندك فكر كتير بتجرجره زي علب الصفيح على البلاط، يا ريتك كنت قُلت وجريت، أو قُلت وطِرت ورا اللي طاروا من عصافير واجواز يمام على قطط على أرانب، نفدت أنت بروحك من جلدك طاير طير، وسبتوها في الدهشة متناهية، وسبتوا الشجر العيّاط، وسبتوا السما الأولى لحد السابعة، وخدتوا هناك كلكم عنّاب ولعبتوا استغماية ونمتوا في حضن الشمس، آديك بِلّم، الوقت مش حاسّك ولا حاسّه، تلوك الكلام ويلوكك، تقرقض أعصاب مبريّة بكل كلمة تقولها، وتفكر إنك لسه واقف قدامها ما بتبطلش قولة : آي.

*اللوحة للفنان صلاح عناني

الاثنين، أكتوبر ١٢، ٢٠٠٩

Writer's Block

وقفت السمراء أمامي ثم ضغطت زرّ التشغيل، فانطلق سير الماكينة في الدوران مصدراً صوتاً عالياً مزعجاً في أذنيّ مماثلاً لضجيج الجحيم، نظرت إليها مستعطفاً أن توقفها لكنها نظرت في عينيَّ بتحدٍ غليظ جعلني أنكمش.
رفعت ذراعها والتقطت عوداً معلقاً في الهواء فوقها، ثم ناولته إليّ، وكسرت إظفرها ووضعته في راحة يدي قائلة أمرها الصارم:
- اعزف لي.
كانت تروس الماكينة السوداء العارية الدائرة قد برّت من أعصابي ما يكفي حتى شارفت على الإنهيار، قلت لها في إرهاق محاولاً أن يكون قولي حاسماً:
- لا أستطيع !!
لم تكرر أمرها مرة أخرى، بل نقلت مستوى سرعة الماكينة إلى الأسرع، شعرت أن هناك نزفاً حاراً قد تدفق في أعلى رأسي من الصداع، أبعدت رأسي إلى الوراء مبتعداً، وتأوهت من الألم، كدت أسقط بالكرسي على ظهري، ألقت نظرة تحدي شيطانية في عيني ثم وضعت سن إظفرٍ آخر في منتصف أحد أعمدة الماكينة الحادة، فصدر صفيراً رفيعاً لعيناً نتج عن احتكاكهما، اتسعت عينيَّ رعباً وقلت لها راجياً:
- أرجوكِ، كفى !..
- اعزف.
وبدا من وجهها الألم لحظة اقتراب اصبعها من التهام العمود القاطع ما دفعني أن أتأهب بالعود في وضع الاستعداد وأمسك إظفرها الموضوع في يدي كريشة عزف، نزعت يدها من قلب الماكينة في برود، ثم مسحت طرف إصبعها الدامي في طرف ياقة ملابسها، نظرت إليه بمزيد من الإشفاق والهوان، أشرت لها أن تطفئ الماكينة حتى أستطيع دوزنة العود، فرفضت قائلة في صلفٍ:
- تستطيع العزف هكذا.
تقوست والعود في أحضاني، داعبت أوتاره محاولاً تجاهل ذلك العويل المستمر الذي يثقب رأسي كمسمار جهنمي، انحنيت أكثر تجنباً قسوة أوامرها، لكنها فجأتني بسؤالها:
- أتعلم ؟
رفعت رأسي نحوها متسائلاً:
- ماذا ؟
- .......
- ماذا ؟
- لا شئ.
لم أستطع خفض عينيَّ عن وجهها، وقلت لها:
- أنا جبان.
- ...........
- لعلّي لست جريئاً بالقدر الكافي.
- ..........
- وربما لأنني لست...
قاطعتني بعصبية ظاهرة:
- اخرس. اخرس. لا تقلها. أنت لا تفهم شيئاً.
أشاحت بعيداً عني لعدّة دقائق، ساد صوت الماكينة علينا، قبل أن تمسح تحت عينيها، وترتد إليّ قائلة بصوتٍ مخنوق:
- خذ شهيقاً عميقاً وعد إلى عزفك.
تشاغلت عنها بالانتهاء من ضبط الأوتار، وشرعت في العزف حذراً، ثم ارتقيت الثقة تدريجياً.
أغمضت عينيَّ، وابتعدت بخيالي مسافراً، سمعت صدى يتسلل، خرير ماء نهرٍ يتدفق، نهر قد يدعى النيل أو الليطاني أو دجلة أو الفرات، تناديه ألحان عودي، يمر تحت أقدامي، ثم يفيض فيحملني كزورق خشبي رُسمت فوقه الأسماء والزخارف والأغصان والأطيار، يحملني هادئاً في رحلة أبديّة بلا هدى ولا نهاية، مجرداً إلا من هذا العود، أدق عليه طربي ونشوتي، وتعبر فوقي آلاف الشموس والأقمار، وتظهر وتختفي ملايين النجوم والشهب، وأظل أعزف منسجماً سابحاً بين ضفاف اليقظة والنوم والموت والخلود.
فتحت عينيَّ، فوجدتها تقترب مني بعد أن أطفئت الماكينة، ركعت أمامي، نظرت إليها متعجباً، اختلجت أناملي فوق الأوتار، علقت خلاخيل ذهبية حول كاحلي في حنان، ثم أمسكت قدمي وهزتها مرتين فصدر منها رنين خافت، رفعت وجهها إليّ ونظرنا إلي بعضنا في رفق مبتسمين.
نهضت ثم جذبت كرسياً من الهواء، ورقاً صغيراً معلقاً، ثم جلست في مقابلتي ضامة أكتافها في انتظار، رفعت يدي بالإشارة، عدت للعزف برفقتها طوال الليلة الماضية.

الثلاثاء، أكتوبر ٠٦، ٢٠٠٩

سيدة القصر .. قارئة الفنجان

وجدت بابها موارباً، عصافير الصباح تتقافز على الدرج تلتقط الحبّ، الشمس مائلة بحنانها الربيعي تحت أقدامي، مددت يدي المرتشعة لأطرق الباب، فسمعت غناءً بعيداً يأتي من خلفه.
"فوق الشجرة أم الأحسن غنت"
شجعت وطرقت الباب بلا وجل، فانفتح من ثقل طرقاتي الخفيفة، ظهر خادمٌ يقف على مقربة منه منتظراً، قال بابتسامةٍ رفيعةٍ "أهلاً وسهلاً.. تفضل"، وأشار ناحية غرفة الضيافة، هززت رأسي شاكراً ثم تقدمت ناحية إحدى كنبات الغرفة وجلست خجلاً، فكرت فى إشعال سيجارة لكنني تراجعت عن الفكرة وتشاغلت بالزخارف المرسومة على الأرضية الرخامية البراقة رُسم عليها أطيار وأغصان متشابكة، بدت فى تتابعها وكأنها تحكي قصة.

"سامع صداها من العلايل يبرى"
صوت الأغنية الهائم فى أرجاء القصر لا يمسح السكون عن الأثاث والأشياء، بل يزيدها توحداً.
"طار نعاسي"
انتبهت من فوري على صوت أقدام تهبط سلماً، نهضت ثم تنحنحت، ألقيت نظرة مستطلعاً فوجدتها تدخل الغرفة، بهيّة الطلعة، ترتدي قميصاً فضفاضاً سمني اللون، وتعقص شعرها اللامع فى شكل كعكة هائلة يبدو معها عنقها المرمري شامخاً، تزين أذنيها بقرطين ثقيلين من اللؤلؤ، ابتسمت فبانت أسنانها البيضاء الكبيرة بين شفتين ورديتين وقالت "تفضل"، انتبهت من شرودي وجلست خافضاً رأسي في أدب، أشارت إلى خادمها فأتاها مهرولاً، طلبت القهوة، أخفض رأسه مطيعاً وخرج.
"ونشوف ضو اسنانها الي فجره"
جلست تتأملني ملياً، ضممت يديّ بين ركبتيّ، مرت الدقائق بطيئة حتى دخل الخادم حاملاً القهوة السوداء ثم وضعها فى رفق أمامنا على طاولة صغيرة وانسحب، شكرته ثم رشفت رشفة هادئة من الفنجان.
"ويحكي لها بمواجعي وبدايا"
طاب لي صمتنا الذي طال، لم أشعر معه بالحرج، بل شعرت براحة خافتة تسري فى أوصالي المكدودة، تأملت ألعاب الضوء المتسلل من النافذة الملونة المزخرفة فوق الحائط المقابل، رشفت رشفتى الأخيرة من فنجاني ثم ناولته إليها، قلبت صحنه الصغير فوق فمه، ثم قلبتهما وهزتهما معاً برفق ، وكانت قد فعلت نفس الشئ مع فنجانها، اقتربت منى ثم وضعت يدها المرصعة بالخواتم فوق يدي كي أقترب أنا الأخر منها وسألتني "ماذا الذي تريد أن تسأل عنه ؟"، احترت فى معرفة الإجابة وشردت عيناي بعيداً، لم أستطع إيجاد شيئاً بعينه أريد أن أعرفه، لم أهتم قط بالسؤال عن الآتي إلى تلك الدرجة، أردت أن أقول جذبني الفضول فأتيت.. لا، لا، أنا كذاب.. هناك ما أريد أن أسأل عنه، لكنني لم أعد أريد معرفة سوى ما ستقوله هي، جئت بمخزون قوي من السخرية والتكذيب، والآن أنا مهيئ تماماً للإستماع لكل حرف تنطقه كأنه من كتابٍ مقدسٍ، الأكاذيب من فمها ستبدو حقائق ناصعة، كدت أقول "لا شئ" لكنني همست متسائلاً "كل شئ ؟"، هزت رأسها مع ابتسامة خفيفة علامة الإيجاب، ثم تناولت فنجانها وقالت "أحب دائماً أن أبدأ بفنجاني"، أدارت الفنجان بين أصابعها وهى تدير عيناها فى داخله في تأمل شديد، اعتدلت فى اهتمام مراقباً إياها، مطت شفتيها في عدم اقتناع، ضيقت عيناها في تركيز ثم أشارت إلى داخل جدار الفنجان، "هناك طاقة نور"، وأضافت "وهذا طائر ملوّن صغير، لا أعرف له اسماً، يقف على حافة تلك الطاقة"، ثم صمتت وطال صمتها، وضعت فنجانها في رويّة معلنة إنتهائها من قراءته، رفعت رأسها إليّ وابتسمت، ثم التقطت فنجاني آخذة نفساً عميقاً من صدرها المرتفع، نظرت داخله في تعمق وغابت، رفعت خنصرها النحيل وأشارت به ناحية قاع الفنجان، "أترى هذا الباب؟"، هززت رأسي دون أن أرى شيئاً حقيقياً، كل ما رأيته تعاريج رفيعة نتجت عن جفاف البن داخل جدران الفنجان، "من يقف خلف هذا الباب الموارب؟" سألتني، "وهل هناك من يقف خلفه؟"، صمتت كثيراً قبل أن تبتسم مرة واحدة وتجيبني "هناك.. لكنه سيغادر بابك إلى بعيد"، "إلى أين؟" سبقتني لهفتي بالسؤال، اتسعت ابتسامتها أكثر وقالت "لا تقلق.. فسوف يعود يوماً فقد عرف من أي الأبواب يدخل"، ثم أعادت الفنجان مقلوباً ووضعته فوق الطاولة القريبة، ثم جاذبتني أطراف الحديث حتي نسيت الفنجان وقصة الفنجان.
ظلّت تسألني وتستمع منصتة إلى حديثي، وأنا أجيبها دون أنا أجد فرصة واحدة للتوقف، ظننت نفسي مخموراً لا يستطيع التحكم فيما يدلي به فمه، والحق أنني كنت كذلك، فبريق عينيها ولفتاتها الصغيرة المهتمة بما أقول جعلتني أشعر بنشوة الحديث معها.
ألقت نظرة طويلة في ساعتها، كففت حديثي خجلاً، فسألت "لِمَ صمت؟، أنا آسفة، لم أكن.."، قاطعتها خافضاً رأسي "لعلي مملاً"، قالت "لا. لا. لا تقل هذا أبداً أرجوك"، ثم زامت ونهضت فنهضت معها وقد تقابل جسدينّا، قالت متلهفة في صوتٍ آسفٍ "ربما قد نتابع حديثنا في وقتٍ لاحق، فأنا الآن عندي موعد في المطار، سأركب طائرة"، سألتها متعجباً "طائرة!، لماذا؟"، ابتسمت في حرج قائلة "ربما لا تعرف، لكنني أعمل مترجمة بالأمم المتحدة"، ضاعف قولها من دهشتي!، فقد انتقلت بي من عالمٍ إلى آخر في لحظة واحدة!، سألتني فجأة "لم نتعارف بعد، أنا فتحية"، أحسست بدوار يلف رأسي، "فتحيّة!! مترجمة!.. أنا حسين.. حسين الحاج"، نادت خادمها فجاءها، طلبت منه حقيبتها فذهب يحضرها، "أتعرف من كان يقف بالباب.. بابك؟"، رددت متلهفاً "من؟"، قالت مبتسمة واضعة يدها الدافئة في يدي"إنه نفس الطائر الملون الصغير الذي وقف فوق حافة طاقتي.. فرصة سعيدة"، ثم غادرتني ملتقطة حقيبتها من الخادم الذي ودعته سريعاً قبل أن تختفي من فتحة باب الغرفة التي كنت فيها دون رجعة.