الجمعة، مايو ١٦، ٢٠٠٨

الدندنة من أول وجديد*

- سهرة مملة !
قالها لنفسه سريعاً كأنه سباب وهو يهبط السلم ، خرج من بوابة العمارة شاعراً بالنعاس، توقف على حافة الرصيف، ثم ملأ صدره بالهواء الليلى المنعش، احتار بين أن يعود إلى منزله راكباً تاكسى فى مثل هذه الساعة المتأخرة أو راجلاً، طوح قدميه قليلاً، ثم حسم أمره، وبدأ يمد فى خطواته، كاد نعاسه يغلبه ويبطئه، وقف معيداً تفكيره فى المسألة، بدأ يهمهم أثناء تفكيره بلحن أغنية غربية قديمة عن حيرة النفس، حرك قدميه ببطء على إيقاع الأغنية، زاده الغناء الخافت حماساً واستفاقة، فعاد لمد خطاه بطول الرصيف عائداً إلى منزله، رفع رأسه قليلا وهو يمشى ناظراً إلى الأمام محاولا تذكر باقى كلمات الأغنية، ولكن السيارة التى كادت أن تصتدم به فى منتصف الشارع قاطعته بزمجرتها العالية، نظر إلى السائق الغاضب بعينين مملؤتين بالدهشة، ثم تركه يسب ويلعن كما يشاء، عبر الشارع سريعاً، ثم على الرصيف الآخر غيّر الأغنية بأخرى، يتصاعد لحنها فى كل خطوة، ود بشدة أن يرقص مع الايقاع المتصاعد، لكنه اضطر إلى أن يخفت صوته إلى الهمس بسبب العابرين الصامتين المتعجبين بأعينهم من جنونه -رغم أن الرصيف الطويل شبه خالى من المارة فى مثل هذه الساعة-، وعندما يتجاوزونه يعود للغناء بانتشاء أكبر وأكبر، سحب نفسه وأتخذ طريقاً مختصراً بشارع مظلم خالى لا تستطيع أى عربة أو إنسان يزعج غناءه فيه، قطع الأغنية من منتصفها شادياً دون أن يخفت صوته هذه المرة لأى داعى:

وأنا والحبيب قاعدين سوا
قاعدين سوا...
قاعدين سوا على شط النيل
....
إمتى الزمان يسمح يا جميل
وأسهر معاك على شط النيل ؟
توقف لحظة فى منتصف الشارع الخالى إلا من جن الليل، أحس بأنه يريد شخصاً ما يشاركه بهجته، أخرج هاتفه من جيبه، وظل يبحث فى قائمته عن اسم ورقم معين، ضغط زر الاتصال بحماس، ورفع الهاتف إلى أذنه منتظر رنين الطرف الآخر، جاءه الرنين عالياً، تسارعت دقات قلبه، ثم خاب أمله إذ تحول الرنين بعد لحظات إلى صفير إنشغال الرقم المطلوب، تقدم ثلاث خطوات إلى الأمام، وقبل أن يضع هاتفه مرة أخرى فى جيبه، رفعه أمام عينيه وضغط زر اتصال مرة أخرى، فظهر أمامه الاسم الذى سبق وأن طلبه، تردد قليلاً قبل أن يضغط نفس الزر مرة أخرى، رفع إصبعه من فوقه، ثم أنهى الأمر بضغطه، وانتظر متوجساً، جاءه الرد على هيئة رسالة صوتية " الرقم الذى طلبته ربما يكون مغلقاً أو خارج..."، ضغط زر إنهاء الاتصال بعنف، ثم ألقى الهاتف بلا مبالاة فى جيبه، ثم همهم بلحن أغنية قديمة متجهاً نحو منزله وهو يحاول إيجاد عذر ولو صغير فى قلبه لكنه تذكر أن هذه ما بالمرة الأولى ولا الثانية وأن محاولاته تتكرر منذ أسابيع عدة ولا إجابة، توقف ثانية وأخرج هاتفه سريعاً وبحث عن الاسم ثم قرر مسحه بضغطة من الذاكرة – الهاتف والقلب معا-، جاءه السؤال " مسح الاسم والرقم ؟"، رفع رأسه للسماء الصافية متأملاً إياها للحظة، ودون تردد هذه المرة ضغط مؤكداً الأمر الصادر، أغلق لوحة أزرار هاتفه، ثم وضعه بهدوء فى جيبه، ومشى متهادياً مفكراً أو متذكراً شئٍ ما، تذكر إنه كان يغنى، عاد ليغنى موالاً لشكوكو مبتسماً ماسحاً تحت أجفانه دمعه الجاف وصدى غناءه يرعش أوراق الشجر النائم:
ياللى كويت الفؤاد عند مكوجى الطرابيش
ثم صدح بغناءه أعلى:
ياللى كويت الفؤاد عند مكوجى الطرابيش
وزر عينى اتقلع وأنت ما بتجيش !!

*اسم قصيدة لفؤاد قاعود

الأحد، مايو ٠٤، ٢٠٠٨

طَــٰـــه

حس الشيخ طه الفشنى بيجيبنى باكى ويردنى مغسول، حس الفشنى بيبعتنى مساجد مجهولة فى مناطق بعيدة، حس الفشنى يقومنى بإمامة المغرب فى الناس على أذانه وإقامته، حس الفشنى يوقفنى وسط جوقة المنشدين أردد وراه مدائحه فى حب ابن بنت النبى، ويقعدنى بين الناس نقول "الله.. الله.. الله" ونهز راسنا متمايلين منه فى سهرة انتظار صلاة الفجر فى جامع السلطان أبو العلا والإذاعة تاخد من صوته وتسجل وريحة نيل الفجرية وصلت لنا من ريح الجنة الدايمة، حس الفشنى يخلى الدنيا عندى زواية ومصلى، حس الفشنى يدوبنى فى ضى المأذن الأخضر، حس الفشنى يطلق حمام الغفران والمسامحة والرضا، على حسه يدوروا الموالدية واصلين السما بأرضها ويعدى أتوبيس حامل ناس رايحين الأراضى الحجازية يأدوا عمرة ويزوروا بيت النبى ويملسوا على شباكه وأدخل أنا فى النوم براحة مسنودة راسى على حديد مقام الحسين، حتى الأرض إذا ما سمعته فى الفجر صدرها يتنهد رحمة بالناس كلها والليل ينزاح من على قلوب الناس سايب شمس اليوم الجديد تشرق علينا.